[أوصاف المنافقين في سورة الأحزاب]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب:١].
وذكر فيها شأنهم في الأحزاب، وذكر من أقوال المنافقين وجبنهم وهلعهم، كما قال تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:١٢] إلى قوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:١٨ - ٢٠].
وقال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب:٦٠ - ٦١] إلى قوله: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:٧٣]].
ذكر الله تعالى هذه الآيات في أوصاف المنافقين وفي شأنهم، وهي في سورة الأحزاب، وسميت الأحزاب باسم غزوة الأحزاب التي تحزب فيها الكفار وتجمعوا من كل قوم حتى أحاطوا بالمدينة النبوية؛ للقضاء على الإسلام والمسلمين، قال الله تعالى في أول هذه السورة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب:١].
قوله: {اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:١] أمر، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مأموراً بالتقوى فغيره من باب أولى، وتقوى الله هي جماع الدين، وهي أصل الدين وأساس الملة، قال طلق بن حبيب: تقوى الله أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخشى عقاب الله.
فاجعل بينك وبين النار وغضب الله وقاية بالتوحيد وأداء الواجبات وترك المحرمات.
وقوله: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:١] نهى عن طاعة الكفار والمنافقين، وهذا يراد به التنبيه بالأعلى على الأدنى، أي: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم يوجه إليه هذا الخطاب فغيره من باب أولى، فالمؤمنون مأمورون بتقوى الله، ومأمورون بألا يطيعوا الكافرين والمنافقين، ومأمورون بالتوكل على الله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب:٣].
ثم بين الله سبحانه وتعالى في هذه السورة أنه في وقت الشدائد والمحن في غزوة الأحزاب ظهر النفاق، وذلك أن غزوة الأحزاب حصل فيها محن وشدائد على المؤمنين، ورمتهم العرب عن قوس واحدة، وذلك أن بعض رؤساء اليهود ذهبوا إلى كفار قريش وحرضوهم على قتال النبي صلى الله عليه وسلم وواعدوهم بأن يساعدوهم، وذهبوا إلى غيرهم من القبائل فاستجابوا لهم وتحزبوا وتجمعوا.
فجاءت قريش بقيادة أبي سفيان، وجاءت غطفان وغيرهم من العرب، وكان في المدينة ثلاث قبائل من اليهود قد صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: بنو قينقاع، وبنو قريظة، وبنو النضير، فنقضت بنو النضير العهد فأجلوا، ونقضت بنو قريظة أيضاً، فكانت هذه الأيام شديدة على المسلمين.
ولكن الله سبحانه وتعالى بعد ذلك فرج كربة المؤمنين، ونصرهم بالملائكة والريح بجنود لم يرها المسلمون؛ بسبب تقواهم، تحقيقاً لقول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:٢]، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:٤].
ولهذا خاطب الله المؤمنين وأمرهم بأن ينصروا الله، وذكر نعمته عليهم حيث نجاهم من عدوهم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} [الأحزاب:٩]، وهم جنود من الكفرة من جميع القبائل ومعهم قريش، {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:٩] أي: جنوداً من الملائكة، {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأحزاب:٩ - ١٠]، فبعضهم نزل في أسفل المدينة وبعضهم نزل في أعلاها.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق لما سمع بقدوم قريش، وكان ذلك بإشارة من سلمان الفارسي، فأمر بحفر الخندق حول المدينة؛ حتى لا تقتحمه الخيول.
{وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:١٠] أي: من شدة هذا الأمر، {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:١٠ - ١١].
وبعد ذلك ذكر أهل النفاق فقال: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:١٢].
وذلك أن بعض المنافقين قال: أين محمد الذي يعدنا بأن نأكل من خزائن كسرى وقيصر وأحدنا لا يستطيع أن يذهب إلى الخلاء من شدة الخوف؟! {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} [الأحزاب:١٣] يعني: المنافقين، {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب:١٣] قال الله: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب:١٣].
ثم قال: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا} [الأحزاب:١٤] يعني: المدينة {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا} [الأحزاب:١٤] أي: لارتدوا وسارعوا إلى الكفر.
ثم قال: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [الأحزاب:١٥ - ١٧]، فكل هذه من أوصاف المنافقين.
ثم قال سبحانه: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب:١٨] أي: أنهم يعوقونهم ويثبطونهم، {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:١٨] أي: الحرب والقتال، {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} [الأحزاب:١٩] أي: إذا ذهب الخوف والحرب والقتال صاروا أشحاء وبلغاء يتكلمون بكلام فصيح بليغ، فيطالبون بحقوقهم والمشاركة في الغنيمة، فإذا جاء الخوف والحرب {رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب:١٩]، قال الله: {أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} [الأحزاب:١٩] أي: بكفرهم وضلالهم ونفاقهم، {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب:١٩].
ثم قال سبحانه: {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ} [الأحزاب:٢٠]، وهذه من شدة هلعهم وخوفهم، فقد ارتحل الأحزاب وذهبوا ولكن هؤلاء من شدة خوفهم لا يزالون هلعين خائفين، {يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ} [الأحزاب:٢٠] أي: أنهم إذا جاء الأحزاب يتمنون أنهم ليسوا في المدينة بل خارج المدينة في البوادي، فيسمعون الأخبار وماذا حصل للمسلمين، وهذا من شدة خوفهم، {وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:٢٠ - ٢١].
فهذه أوصاف المنافقين بينها الله لنا لنحذرها، فالمؤمن يرجو ثواب الله والدر الآخرة، لذلك تجد عنده شجاعة وإقداماً، وقوة وثبات قلب، وليس كالمنافقين الهلعين الخائفين، ولهذا وصف الله المؤمنين فقال: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا ع