[طبقات الناس عند ملاحدة الصوفية وحكم كل طبقة]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهؤلاء قد يشهدون القدر أولاً وهي الحقيقة الكونية، ويظنون أن غاية العارف أن يشهد القدر ويفنى عن هذا الشهود، وذلك المشهد لا تمييز فيه بين المأمور والمحظور، ومحبوبات الله ومكروهاته، وأوليائه وأعدائه.
وقد يقول أحدهم: العارف شهد أولاً الطاعة والمعصية، ثم شهد طاعة بلا معصية، يريد بذلك طاعة القدر، كقول بعض شيوخهم: أنا كافر برب يعصى، وقيل له عن بعض الظالمين: هذا ماله حرام، فقال: إن كان عصى الأمر فقد أطاع الإرادة.
ثم ينتقلون إلى المشهد الثالث: لا طاعة ولا معصية، وهو مشهد أهل الوحدة القائلين بوحدة الوجود، وهذا غاية إلحاد المبتدعة جهمية الصوفية، كما أن القرمطة آخر إلحاد الشيعة، وكلا الإلحادين يتقاربان، وفيهما من الكفر ما ليس في دين اليهود والنصارى ومشركي العرب.
والله أعلم].
ملاحدة الصوفية يجعلون الناس طبقات: الطبقة الأولى: العامة، والطبقة الثانية: الخاصة، والطبقة الثالثة: خاصة الخاصة، وكل طبقة لها أحكام.
فالعامة عليهم الأوامر والنواهي، من الصلاة والصيام والزكاة والحج وطاعات ومعاص، ويجعلون من العامة جميع الأنبياء والمرسلين، فهنيئاً للعامة فتوحيدهم توحيد الأنبياء والمرسلين.
أما الخاصة عندهم فيرتفعون عن هذه الطبقة، إذا وصل أحدهم إلى العلم والمعرفة، فالعلم المراد به شهود الحقيقة الكونية، يعني: أن يشهد القدر، وهو أن يشهد أن الله قدَّر كل شيء، قدر الكفر والمعاصي والطاعات، وأن الإنسان لابد أن ينفذ فيه قدر الله، ويرون أن الإنسان مجبور على هذا الشيء، فحينئذٍ تسقط عنه التكاليف، وفي هذه الحالة يصل إلى درجة المعرفة ويلغي صفاته وأفعاله ويجعلها صفات لله، فالله هو المصلي والصائم، والعباد وعاء للأفعال، والله هو الفاعل، كالكوز الذي يصب فيه الماء، فالأفعال أفعال الله، وفي هذه الحالة يسقط عنه التكليف، ولا تصير عنده معاص، وكل ما يفعله طاعة، حتى الكفر والزنا والسرقة! فإذا قيل له: أنت عصيت أمر الله الشرعي، قال: لكن وافقت أمر الله الكوني، فإنه قدر علي هذا، وعلى هذا فيعذرون الكفرة من قوم نوح وقوم هود.
الطبقة الثالثة: طبقة خاصة الخاصة، يترقي الواحد منهم من هذه الطبقة إلى القول بوحدة الوجود، وحينئذ لا تكون عنده طاعات ولا معاص، والخاصة عندهم طاعات وليس عندهم معاص، فهؤلاء ملاحدة وصلوا إلى القول بوحدة الوجود والعياذ بالله، ولهذا بين المؤلف رحمه الله ذلك وقال: (إن هؤلاء الملاحدة يجعلون فعل المأمور وترك المحذور واجباً على السالك) يعني: السائر في الطريق إلى الله عندهم، حتى يصير عارفاً محققاً في زعمهم، وحينئذٍ يسقط عنه التكليف، ويتأولون على ذلك قول الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:٩٩] زاعمين أن اليقين هو ما يدعونه من المعرفة، الصواب أن اليقين هو الموت، كما قال الله تعالى عن أهل النار: {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:٤٧] يعني: الموت.
وقال الحسن: إن الله لم يجعل لعباده أجلاً دون الموت، وتلا هذه الآية: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:٩٩].
وفي الحديث الصحيح لما توفي عثمان بن مظعون قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما عثمان بن مظعون فقد أتاه اليقين من ربه)، وهذا الحديث رواه البخاري في الصحيح.
وهؤلاء الصوفية يشهدون القدر أولاً، وشهود القدر يعني: أن يشهد أن الله قدر الأشياء، وأن كل مخلوق سائر بالقدر شاء أم أبى، وأنه تنفذ فيه قدرة الله، ويلغي النظر إلى الشرع والأوامر والنواهي، ولا ينظر إلا إلى القدر، وحينئذٍ يجعل الصفات صفات الله والأفعال أفعال الله، وحينئذ يسقط عنه التكليف، ويظنون أن غاية العارف أن يشهد القدر، فإذا شهد القدر وفني بهذا الشهود ففي هذا المشهد لا تمييز بين المأمور والمحظور، ومحبوبات الله ومكروهاته، وأوليائه وأعدائه، وليس هناك تمييز بين المحرم والجائز، ولا فرق بين الزنا والنكاح، ولا فرق بين الخمر والماء، ولا فرق بين الربا والبيع، ولا فرق بين المؤمن والكافر.
يقول المؤلف: (وقد يقول أحدهم: العارف شهد أولاً الطاعة والمعصية) يعني: شهد ذلك لما كان في طبقة العامة، ثم يقول: (ثم شهد طاعة بلا معصية) يعني: لما ارتفع إلى الطبقة الثانية وهي طبقة الخاصة (يريد بذلك طاعة القدر) يعني: إذا زنى قال: هذه طاعة، وإذا سرق قال: هذه طاعة، فإذا قيل له: هذه طاعة الشرع؟ قال: لا، هذه طاعة القدر، (كقول بعض الشيوخ الصوفية: أنا كافر برب يعصى) والعياذ بالله، لماذا قال هذا القول: أنا كافر برب يعصى؟ يريد أن يقول: المعصية طاعة لله؛ لأنه قدرها عليه، فليس هناك معصية، فإذا قلتم: إن هناك معصية، يقول هو: أنا كافر برب يعصى، والعياذ بالله.
إذاً: لا توجد معصية حتى لا يعصى الرب، وكل ما يقع فهو طاعة.
وقيل له عن بعض الظالمين: هذا ماله حرام، قال: لا يوجد حرام وحلال، كل شيء حلال، إن كان عصى أمر الله الشرعي فقد أطاع الإرادة الكونية القدرية.
ثم ينتقلون إلى المشهد الثالث ويقولون: لا طاعة ولا معصية، وهذا مشهد خاصة الخاصة، وهم أهل وحدة الوجود، ولذلك يقول: (وهو مشهد أهل الوحدة القائلين بوحدة الوجود، وهذا غاية إلحاد المبتدعة كجهمية الصوفية، كما أن القرمطة آخر إلحاد الشيعة، وكلا الإلحادين يتقاربان، وفيهما من الكفر ما ليس في دين اليهود والنصارى ومشركي العرب).
يعني: كفرهم تجاوز كفر اليهود والنصارى، وتجاوز كفر الوثنية والعياذ بالله، حتى إنهم الآن يقولون: إن فرعون مصيب حينما قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤]، نعوذ بالله! وقالوا: إن الرب هو العبد والعبد هو الرب، ولا فرق، فالوجود واحد، والرب عندهم يتمثل في صورة معبود كما في صورة فرعون، بل يتمثل في صورة هاد كما في صورة الأنبياء وهو واحد، والأحداث يلبسها ويخلعها.
وابن عربي صاحب وحدة الوجود له كتاب سماه كتاب (الهو) يقول: العامة لهم ذكر: لا إله إلا الله، سبحان الله، والحمد لله، والخاصة ذكرهم لفظ الجلالة: الله الله الله الله الله الله، كما يحصل هذا، يقول شخص ذهب إلى أفريقيا: وجدناهم يكررون: الله الله من بعد العصر إلى المغرب، وأما خاصة الخاصة فذكرهم: (هو هو هو هو هو) يوهوهون كالكلاب.
وملاحدة الصوفية يعتذرون عن إبليس وعن فرعون، ويقولون: فرعون مصيب لما قال: أنا ربكم الأعلى، وإذا قلنا: لماذا أغرق؟ يقولون: كل من عبد شيئاً دون الله فهو مصيب، فالذي يعبد الأصنام مصيب، والذي يعبد النار مصيب، والذي يعبد البشر مصيب، والذي يمنع الناس من عبادة شيء فهو كافر، وفرعون أغرق ليزول عنه التوهم أنه هو الرب، فأغرق حتى يزول عنه الوهم والحسبان تطهيراً له، فهو لما أغرق تطهر وزال عنه التوهم والحسبان؛ لأنه خص نفسه وقال: أنا الرب، ومنع الناس من أن يكونوا أرباباً، فلذلك أغرق، هكذا في كتاب ابن عربي أعوذ بالله.
وقال: إن عباد العجل من بني إسرائيل على حق، ومعلوم أن موسى عليه الصلاة والسلام لما جاء ووجد بني إسرائيل يعبدون العجل، وعندهم أخوه هارون وكان نبياً مثله جره برأسه ولحيته، وغضب عليه الصلاة والسلام، وألقى الألواح فتكسرت، فعندما جره قال: كيف تركتهم يعبدون الأصنام؟ كما أخبر الله بذلك.
فهؤلاء الملاحدة يؤولون الآيات ويحرفونها ويقولون: إن موسى حينما جر هارون بلحيته ينكر عليه، قال له هارون: لماذا تنكر عليهم عبادة العجل؟ اتركهم يعبدون العجل فهم مصيبون، هكذا -والعياذ بالله- وصل الإلحاد والكفر والضلال بهم إلى هذا الحد، فهذا كفر لم يصل إليه إلا هؤلاء الملاحدة، فهم أعظم الناس كفراً، نسأل الله السلامة والعافية، ونسأله سبحانه أن يهدينا وأن يثبت قلوبنا، ونسأله سبحانه وتعالى ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يثبت قلوبنا على طاعته.
يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، نسأل الله الثبات على دينه، والاستقامة عليه حتى الممات، إنه ولي ذلك والقادر عليه.