[المنافقون في الدرك الأسفل من النار]
قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:١٤٥] هذه الآية فيها جزاء المنافقين في الآخرة.
قوله: {فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:١٤٥] أي: أن النار والعياذ بالله دركات سفلى، كل دركة أشد عذاباً من الدركة التي أعلى منها، والجنة درجات، كل درجة أعظم نعيم من الدرجة التي تحتها، والمنافقون أين مكانهم؟ {فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:١٤٥] آخر درك، فهم تحت دركة اليهود والنصارى والمشركين.
فالمشركون فوق اليهود والنصارى، واليهود والنصارى فوق المنافقين، وإن كانوا جميعاً معذبين وخالدين في النار، فقد جاء في الحديث (إن أهون الناس عذاباً رجل في أخمصيه -يعني: في أسفل رجليه- جمرتان يغلي منهما دماغه) وفي اللفظ الآخر: (إن أهون أهل النار عذاباً لرجل في رجليه شراكان من نار يغلي منهما دماغه).
وفي اللفظ الآخر: (لرجل في رجليه نعلان يغلي منهما دماغه، وإنه ليظن أنه أشد أهل النار عذاباً) أي: من شدة ما يجد من الألم وهو أهونهم، فكيف عذاب اليهود والنصارى؟ وكيف عذاب المنافقين في الدرك الأسفل من النار والعياذ بالله؟! فالمنافقون استحقوا أن يكونوا في الدرك الأسفل من النار؛ بسبب أنهم زادوا على اليهود والنصارى والوثنيين بالخداع والتلبيس على المسلمين، فهم يدبرون المكائد للقضاء على الإسلام والمسلمين؛ لأنهم يعيشون بينهم ويظهرون الإسلام، فلهذا صاروا في دركة سفلى، فزاد عذابهم على الكفرة من اليهود والنصارى.
إن الله سبحانه وتعالى فتح باب التوبة للمنافقين وغيرهم، فقال سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:١٦٠] أي: من تاب قبل الموت تاب الله عليه، سواء كان يهودياً أو نصرانياً أو وثنياً أو شيوعياً، والتوبة من المعاصي من باب أولى، فإذا تاب من الزنا أو من السرقة أو شرب الخمر أو عقوق الوالدين، أو قطيعة الرحم توبة نصوحاً تاب الله عليه.
فالتوبة النصوح هي الإقلاع عن المعاصي والكفر والضلال، وكذلك الندم على ما مضى، والعزم عزماً جازماً على ألا يعود إلى الذنوب مرة أخرى، وإذا كانت المعصية بينه وبين الناس رد الحقوق إلى أهلها، إن كان مالاً رد المال لهم، وإن كان قصاصاً سلم نفسه، وإن كان عرضاً استحله منهم، قال الله تعالى في كتابه العظيم: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:٨٢].
وقال سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:٥٣] هذه الآية أجمع العلماء على أنها نزلت في التائبين؛ لأن الله عمم وأطلق فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:٥٣] بخلاف الآية الأخرى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] فهذه في غير التائبين؛ لأن الله خصص وعلق، خص الشرك بأنه لا يغفر وعلق ما دونه، وهنا سبحانه وتعالى فتح باب التوبة للمنافقين فقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:١٤٦] يعني: إلا الذين تابوا من نفاقهم وكفرهم، وأصلحوا أحوالهم وأعمالهم، {وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ} [النساء:١٤٦] أي: لجئوا إليه سبحانه وكانوا مخلصين في توبتهم، فحكمهم حكم المؤمنين، والمؤمنون جزاؤهم كما قال سبحانه: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:١٤٦].
لقد عرض الله التوبة على المثلثة من النصارى، قال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:٧٣ - ٧٤]، فباب التوبة مفتوح لمن تاب قبل الموت أو قبل طلوع الشمس من مغربها.