للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الرد على المعتزلة والخوارج في زيادة الإيمان ونقصانه]

المرجئة يقولون: الإيمان شيء واحد، وحقيقة مركبة يزول بزوال بعض أجزائه، فإذا زال التصديق زال الإيمان، وإذا وجد التصديق وجد الإيمان.

وهذه الشبهة هي عند جميع الطوائف ما عدا جمهور أهل السنة، وهذه الشبهة من أبطل الباطل، فإن الإيمان متعدد ومتبعض، ولهذا قال جمهور أهل السنة ومنهم الصحابة، والتابعون، والعلماء ومنهم الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد، وسفيان الثوري وابن عيينة والبخاري ومسلم وغيرهم من أهل العلم وأهل لحديث: إن الإيمان قول باللسان، وتصديق بالقلب، وعمل بالقلب، وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.

فإذا فعل الإنسان معصية نقص إيمانه وضعف ولو كثرت المعاصي، بل لا يذهب الإيمان إلا الكفر الصراح.

ولهذا جاء في أحاديث الشفاعة: (أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) فدل على أن الإيمان يضعف حتى لا يبقى منه إلا مثقال ذرة، ومع هذا لا يزول ولا ينتهي الإيمان إلا إذا جاء الكفر الأكبر، أو النفاق الأكبر، أو الفسق الأكبر، أو الشرك الأكبر؛ لامتناع أن يجتمع إيمان وكفر.

فإذا فعل شخص كفراً كأن سب الله، أو سب الرسول، أو استهزأ بالله أو برسوله أو بكتابه، أو كذب الله أو كذب رسوله، أو أنكر المعلوم من الدين بالضرورة وجوبه وتحريمه، كإنكار تحريم الزنا، أو تحريم الربا، أو تحريم الخمر، أو تحريم عقوق الوالدين، أو أنكر وجوب الصلاة، أو وجوب الزكاة، أو وجوب الحج، فمثل هذا قد ذهب إيمانه بالكلية.

ولهذا فإن أهل السنة بدعوا المعتزلة وصاحوا بهم: أنتم أنكرتم النصوص التي تواترت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يدخل النار جملة من أهل الكبائر، وهم مؤمنون موحدون مصلون ولا تأكل النار وجوههم؛ لأن الله حرم على النار أن تأكل وجوههم وهم مصلون، بل تأكلهم النار من نواحى أخرى، فمثل هذا مات وهو مؤمن مصل، لكنه مات عاقاً لوالديه من غير توبة، وهذا مات على الزنا من غير توبة، وهذا مات على التعامل بالربا من غير توبة، وهذا مات على الغيبة من غير توبة، وهذا مات على النميمة من غير توبة، وهذا مات على القتل بغير حق ولم يستحله، وهكذا تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يدخل النار جملة من أهل الكبائر، فلو كان الإيمان ينتهي بالمعاصي ما أخرجو من النار.

بل تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يشفع للعصاة الموحدين، قال عليه الصلاة والسلام: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) وفي كل مرة يحد الله له حداً يعرفهم بالعلامة يخرجك من النار، فقد جاء في بعض الأحاديث أن الله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: (أخرج من النار من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان) وفي بعضها: (أخرجوا من كان في قلبه نصف دينار) وفي بعضها: (أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) والبعض الآخر: (أخرجوا من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان).

بل تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يشفع أربع شفاعات للعصاة، وكذلك يشفع بقية الأنبياء، ويشفع الملائكة، ويشفع الشهداء، وكل عبد صالح، وتبقى بقية لا تنالهم الشفاعة، فيخرجهم رب العالمين برحمته، ويقول: (شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المرسلون، ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين، فيخرج قوماً من النار لم يعملون خيراً قط) يعني: زيادة على التوحيد والإيمان أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

وثبت في الحديث الصحيح: أنهم يخرجون من النار كأنهم الضغابيس قد امتحشوا وصاروا فحماً، فيصب عليهم من نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، فإذا هذبوا ونقوا قيل لهم: ادخول الجنة.

والأخبار في هذا متواترة.

وثبت حديث الرجل الذي هو آخر أهل النار خروجاً، وآخر أهل الجنة دخولاً، فإذا سلمه الله من النار التفت إليها وقال: الحمد لله الذي نجاني منك، وفي أول الأمر يكون وجهه إلى النار، فيقول: يا رب! اصرف وجهي عن النار، فقد قشبني ريحها وأحرقني حرها، فيأخذ عليه العهد والميثاق ألا يسأل غير ذلك، فيعطيه، فيصرف الله وجهه عن النار، ثم ترفع له شجرة فيسكت ما شاء الله، ثم يدعو ربه ويقول: يا رب! أدنني من هذه الشجرة أستظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله: ويلك يا ابن آدم ما أغدرك! ألم تقل إنك لن تسألني غيره، وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له، فيعطي ربه العهد والميثاق فيدنيه، ثم يسكت ما شاء الله، وتظهر له شجرة أخرى، وهكذا حتى يصل إلى الجنة.

فإذا وصل إلى باب الجنة ورأى ما فيها من النعيم والكرامة مما لا صبر له عليه، يقول: يا ربي! أدخلني الجنة، فيقول الله: ويلك يا ابن آدم ما أغدرك! ألم تقل إنك: لا تسألني غيرها، فيقول: يا ربي! لا أكون أشقى خلقك، فيضحك الله سبحانه وتعالى له، فإذا ضحك أدخله الجنة، فإذا دخل الجنة قال الله: تمنَّ! أما ترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟! فيقول: رضيت يا رب، فيقول الله له: لك ذلك، ومثله، ومثله، ومثله، ومثله، ومثله، خمس مرات.

وجاء في الحديث الآخر: لك ذلك وعشرة أمثاله.

يعني: لك مثل مُلْكِ مَلِكٍ من ملوك الدنيا خمسين مرة.

فهذا آخر أهل النار خروجاً وآخر أهل الجنة دخولاً، وهذا الحديث ثابت في صحيح البخاري، فكيف يقول الخوارج والمعتزلة: إن من دخل النار لا يخرج منها! ويجعلون العصاة كالكفار سواء بسواء، وأنكروا النصوص مع تواترها، والله تعالى يقول في كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨].

<<  <  ج: ص:  >  >>