[دلالة التصريح أن المغفرة قد تكون مع الكبائر]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [الثاني: أنه قد جاء التصريح في كثير من الأحاديث بأن المغفرة قد تكون مع الكبائر، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (غفر له وإن كان قد فر من الزحف).
وفي السنن: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب، فقال: أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار).
وفي الصحيحين في حديث أبي ذر رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن زنا وإن سرق)].
هذا هو الجواب الثاني، وهو أنه قد جاء التصريح في كثير من الأحاديث بأن المغفرة قد تكون بالحسنة مع الكبيرة، منها هذا الحديث: (غفر له وإن كان قد فر من الزحف)، الجهاد في سبيل الله مستحب إلا في ثلاث مواضع يكون واجباً فقط: الموضع الأول: إذا داهم العدو بلداً من بلاد المسلمين وجب على أهل البلد أن يقاتلوا كلهم رجالهم ونساؤهم، وهو عليهم فرض عين.
الثاني: إذا استنفر الإمام واحداً من الناس وأمره بأن يجاهد يجب عليه، وصار فرضاً في حقه.
الثالث: إذا وقف في الصف ولو كان متطوعاً، ففي هذه الحالة صار فرضاً عليه، ولا يجوز له أن يفر أو يهرب؛ لأنه يخذل إخوانه المؤمنين، فإذا فر من الزحف صار مرتكباً لكبيرة من كبائر الذنوب، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:١٥ - ١٦]، توعده الله بالنار وهو مرتكب للكبيرة.
والنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يقول: (من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت ذنوبه وإن كان قد فر من الزحف)، أي: وإن كان قد ارتكب كبيرة، إذاً: هنا فيه أنه غفر له مع الكبيرة.
كذلك الحديث الثاني في السنن قال: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار)، أوجب: ارتكب كبيرة توجب له النار ومع ذلك غفرت له هذه الكبيرة بهذه الحسنة وهي العتق.
والدليل الثالث: ما في الصحيحين من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال أبو ذر: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، فكررها ثلاثاً فقال في الثالثة: وإن زنى وإن سرق وإن رغم أنف أبي ذر).
وهذا دليل على أنه يغفر له الزنا بالتوحيد الخالص، ولكن هذا سيأتي فيه الكلام لأهل العلم، وظاهره أن الأصل أن مرتكب الكبيرة تحت مشيئة الله إلا إذا تاب توبة نصوحاً، واستدل المؤلف رحمه الله بهذه الأدلة على أن الحسنة قد يمحو الله بها الخطايا ولو مع الكبائر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [الثالث: أن قوله صلى الله عليه وسلم لأهل بدر ونحوهم: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) إن حمل على الصغائر أو على المغفرة مع التوبة لم يكن فرق بينهم وبين غيرهم، فكما لا يجوز حمل الحديث على الكفر لما قد علم أن الكفر لا يغفر إلا بالتوبة، لا يجوز حمله على مجرد الصغائر المكفرة باجتناب الكبائر].
هذا هو الجواب الثالث، وقد استدل المؤلف بالحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل بدر: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، وهذا حديث قدسي قاله الله تعالى في قصة حاطب: (وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
وهذا الحديث فيه دليل على أن من شهد بدراً يغفر له ولو فعل الكبيرة.
فإذا قال قائل: إن المراد أن تغفر له الصغائر إذا تاب، فيقال: إذاً لا فرق بين أهل بدر وغيرهم، فكل واحد تغفر له الصغائر باجتناب الكبائر، وكل واحد يغفر له بالتوبة، ولا خصيصة بهذا لأهل بدر، فدل على أن المراد الكبيرة.
يقول المؤلف: فكما لا يجوز حمل الحديث على الكفر لا يجوز حمله على مجرد الصغائر، فلا يقول قائل إن قوله: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) أي: غفرت لكم الكفر، فلا أحد يقول هذا؛ لأن الكفر لا يغفر إلا بالتوبة، فكذلك لا يقول قائل: إن المراد (اعملوا ما شئتم) الصغائر؛ لأن الصغائر مغفورة باجتناب الكبائر، فدل هذا على أن المراد الكبيرة.
وهذا يدل على أن هذه الحسنة وهي حضور بدر يمحو الله بها الكبائر؛ ولهذا قال المؤلف: فكما لا يجوز حمل الحديث على الكفر لما قد علم أن الكفر لا يغفر إلا بالتوبة لا يجوز حمله على مجرد الصغائر المكفرة في اجتناب الكبائر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [الرابع: أنه قد جاء في غير حديث أنه: (أول ما يحاسب عليه العبد من عمله يوم القيامة الصلاة، فإن أكملها وإلا قيل: انظروا هل له من تطوع؟ فإن كان له تطوع أكملت به الفريضة، ثم يصنع بسائر عمله كذلك)، ومعلوم أن ذلك النقص المكمل لا يكون لترك مستحب، فإن ترك المستحب لا يحتاج إلى جبران؛ ولأنه حينئذ لا فرق بين ذلك المستحب المتروك والمفعول فعلم أنه يكمل نقص الفرائض من التطوعات، وهذا لا ينافي ما ورد من أن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة، مع أن هذا لو كان معارضاً للأول لوجب تقديم الأول؛ لأنه أثبت وأشهر، وهذا غريب رفعه، وإنما المعروف أنه في وصية أبي بكر رضي الله عنه لـ عمر رضي الله عنه، وقد ذكره أحمد في رسالته في الصلاة.
وذلك لأن قبول النافلة يراد به الثواب، ومعلوم أنه لا يثاب على النافلة حتى تؤدى الفريضة، فإنه إذا فعل النافلة مع نقص الفريضة كانت جبراً له وإكمالاً لها فلم يكن فيها ثواب نافلة؛ ولهذا قال بعض السلف: النافلة لا تكون إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وغيره يحتاج إلى المغفرة، وتأول على هذا قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:٧٩]، وليس إذا فعل نافلة وضيع فريضة تقوم النافلة مقام الفريضة مطلقاً، بل قد تكون عقوبته على ترك الفريضة أعظم من ثواب النافلة].
هذا هو الجواب الرابع وفيه يقول المؤلف أنه ورد في الحديث: (إن أول ما يحاسب عليه العبد من عمله يوم القيامة الصلاة، فإن أكملها وإلا قيل: انظروا هل له من تطوع -أي: نوافل- فإن كان له تطوع أكملت به الفريضة ثم يصنع بسائر عمله كذلك).
معنى الحديث: أن الإنسان أول ما يحاسب عليه من الأعمال التي بينه وبين الله الصلاة، وهذا لا ينافي الحديث الآخر: (إن أول ما يقضى بين الناس في الدماء)، ومعناه: أول ما يقضى بين الناس في الدماء فيما يتعلق بحقوق الناس، وأول ما يحاسب عنها العبد صلاته فيما يتعلق بالعبادات، فإن أكملها وصارت تامة وليس فيها نقص شيء من الواجبات ولا خلل فالحمد لله، وإلا قيل كما جاء في الحديث: (وإلا قال الرب: انظروا هل له من تطوع)، (فإن كان له تطوع) مثل: السنن الرواتب وصلاة الضحى وصلاة الليل أكملت بها الفريضة، (ثم يفعل بسائر عمله كذلك)، كزكاة الفريضة إن كانت كاملة فالحمد لله، وإن لم تكن كاملة وفيها نقص فإذا كان له صدقات يكمل بها الفريضة، وكذلك صيام رمضان إذا كان فيه نقص يكمل من صيام التطوع كصيام الإثنين والخميس، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصيام ست من شوال، وصيام يوم التاسع والعاشر من شهر محرم، وهكذا سائر العمل.
المؤلف رحمه الله يعلق على هذا الحديث فيقول: (ومعلوم أن ذلك النقص المكمل لا يكون لترك مستحب) أي: هذا النقص الحاصل في الصلاة أو في الزكاة والصوم، فلو كان ترك مستحباً كترك زيادة الدعاء بعد التشهد الأول، فلا نقول: إنه يكمل من النوافل؛ لأن المستحب لا يحتاج إلى جبران، إنما الذي يحتاج إلى جبران هو الواجب.
فإذاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا فإن أكملها وإلا قيل: انظروا هل له من تطوع)، المراد منه إذا أخل بشيء من الواجبات في الصلاة أو في الزكاة تكمل من النوافل، وإذا أخل بشيء من المستحبات فلا يكمل، ولا يعتبر نقصاً في الصلاة ولا في غيرها.
فتبين بهذا أن المراد بالحديث: (انظروا إن أكملها وإلا فانظروا هل له من تطوع)، أنه يجبر نقص الواجب فقط.
يقول المؤلف: و (لأنه حينئذ إذا ترك مستحباً أو فعل مستحباً لا فرق بين المتروك والمفعول؛ لأنه ليس بواجب، سواء فعله أو تركه، فلا يقال: إنه إذا ترك مستحباً يجبر به مستحب آخر، فعلم أنه يكمل نقص الفرائض من التطوعات).
إذاً: إذا نقص شيئ من الواجبات في الفرائض كمل من التطوعات، فإذا ترك واجباً من الصلاة كمل من التطوع، وإذا ترك واجباً من الزكاة كمل من الصدقات، وإذا ترك واجباً من صيام رمضان كمل من صيام النفل، وإذا ترك واجباً من الحج كمل من حج النفل، وهكذا.
وهذا لا ينافي حديث: (إن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة) على فرض صحته.
يقول المؤلف رحمه الله: لو قيل: إن هذا الحديث يعارض هذا الحديث فإنه يجب تقديم الحديث الأول؛ لأنه أثبت وأشهر، والقاعدة عند أهل العلم: إذا تعارض حديثان فإن أمكن الجمع بينهما فلا يعدل عنه؛ لأنه عمل بالحديث من الجانبين، فإن لم يمكن ننظر التاريخ فإن عرفنا المتقدم أو المتأخر يكون المتأخر ناسخاً للمتقدم، فإن لم يعرف التاريخ ننظر إلى الترجيح، فإذا كان أحدهما أصح فهو مقدم على غيره، فإن لم يمكن الترجيح نتوقف.
يقول المؤلف: إن حديث (لا يقبل الله نافلة حتى تؤدى الفريضة) غريب رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والمعروف أنه في وصية أبي بكر لـ عمر قال له: واعلم أنه لا تقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، وقد كتبها أبو بكر لـ عمر.
يقول المؤلف رحمه ا