[جواب آخر على القول بأن الحسنات الماحية لا تسقط عقوبة الذنب بشرط اجتناب الكبائر]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [الخامس: إن الله لم يجعل شيئاً يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، كما أنه لم يجعل شيئاً يحبط جميع السيئات إلا التوبة، والمعتزلة مع الخوارج يجعلون الكبائر محبطة لجميع الحسنات حتى الإيمان، قال الله تعالى {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:٢١٧] فعلق الحبوط بالموت على الكفر، وقد ثبت أن هذا ليس بكافر، والمعلق بشرط يعدم عند عدمه، وقال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة:٥]، وقال تعالى لما ذكر الأنبياء: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:٨٧ - ٨٨]، وقال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:٦٥]، مطابق لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:٤٨]، فإن الإشراك إذا لم يغفر وأنه موجب للخلود في النار لزم من ذلك حبوط حسنات صاحبه.
ولما ذكر سائر الذنوب غير الكفر لم يعلق بها حبوط جميع الأعمال.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:٢٨]؛ لأن ذلك كفر، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:٢]؛ لأن ذلك قد يتضمن الكفر فيقتضي الحبوط وصاحبه لا يدري، والمعنى: كراهية أن يحبط أو خشية أن يحبط، فنهاهم عن ذلك لأنه يفضي إلى الكفر المقتضي للحبوط، ولا ريب أن المعصية قد تكون سبباً للكفر، كما قال بعض السلف رحمهم الله: المعاصي بريد الكفر، فينهى عنها خشية أن تفضي إلى الكفر المحبط، كما قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:٦٣] وهي الكفر، {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:٦٣]، وإبليس خالف أمر الله فصار كافراً وغيره أصابه عذاب أليم].
هذا هو الجواب الخامس من الأجوبة على الاعتراض على مسقط من مسقطات العقوبة، وهي الحسنة الماحية، والاعتراض هو: أن هذه الحسنات الماحية إنما تكون ماحية للصغائر دون الكبائر.
فالجواب الخامس: أن الله لم يجعل شيئاً يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، كما أنه لم يجعل شيئاً يحبط جميع السيئات إلا التوبة، وإذا فعل الكفر بطلت جميع الأعمال، وإذا مات على الكفر والعياذ بالله خلد في النار، لكن إذا فعل المعصية: كما إذا عق والديه، أو قطع رحمه، أو تعامل بالربا وهو يعلم أنه حرام، لا نقول له: بطلت صلاتك وصومك وحجك، لكن إذا دعا غير الله وذبح لغير الله ومات على ذلك بطلت جميع الأعمال.
فالله تعالى لم يجعل شيئاً يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، كما أنه لم يجعل شيئاً يحبط جميع السيئات إلا التوبة، حتى الكفر، فإذا تاب توبة نصوحاً من الشرك أو الكفر أو الزنا أو السرقة أو عقوق الوالدين أو التعامل بالربا بشروطها الثمانية فالتوبة تجب ما قبلها، وتزيل جميع المعاصي، كما أن الكفر يزيل جميع الحسنات.
والمعتزلة مع الخوارج يخالفون النصوص، ويجعلون الكبيرة محبطة لجميع الحسنات حتى الإيمان، ويقولون: إذا زنا أو سرق أو شرب الخمر أو عق والديه أو تعامل بالربا بطلت جميع الأعمال حتى الإيمان، فخرج من الإيمان وخرج من الإسلام وبطلت جميع أعماله، وصار مخلداً في النار.
وهذا من أبطل الباطل؛ لأن الله تعالى بين في كتابه أن الذي يحبط الأعمال الكفر والشرك لا المعاصي، وبشرط: أن يموت على الكفر، فإذا منّ الله عليه بالإسلام لا تحبط أعماله بل تبقى له يخرجها الإيمان، فإن مات على الكفر بطلت جميع الأعمال، والدليل قول الله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:٢١٧]، ووجه الدلالة قوله: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [البقرة:٢١٧]، فعلق الحبوط بالموت على الكفر.
وقد ثبت أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر، والمعلق بشرط يعدم عند عدمه، وحبوط العمل معلق بشرط وهو الموت على الكفر، فإذا لم يمت على الكفر بعد عن حبوط العمل.
ومن الأدلة على أن الكفر يحبط الأعمال قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة:٥]، ومنها: قوله تعالى لما ذكر الأنبياء: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ} [الأنعام:٨٧] إلى قوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:٨٨].
ومن الأدلة على أن الشرك يحبط الأعمال قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:٦٥].
إذاً: الشرك يحبط الأعمال إذا مات على الكفر، وهو مطابق لقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:٤٨]، فالشرك لا يغفر أبداً إذا مات صاحبه عليه، فإن الشرك إذا لم يغفر موجب للخلود في النار ويلزم من ذلك حبوط الحسنات وصاحبها، ولما ذكر الله سائر الذنوب غير الكفر لم يعلق بها حبوط جميع الأعمال.
أما قول الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:٢٨]، فلأن ذلك كفر، ومن كره شيئاً مما جاء عن الله وعن رسوله حبط عمله، وهو ردة وكفر، فمن كره التشريع الذي أنزله الله في كتابه أو أنزله على رسوله حبط عمله بردته نعوذ بالله.
وأما قول الله تعالى: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:٢]، هذا قد يتضمن الكفر الذي يقتضي الحبوط وصاحبه لا يدري، والذي يرفع صوته فوق صوت النبي قد يحبط عمله وقد لا يحبط.
فإذاً: نهي عن رفع الصوت خشية أن يؤدي إلى حبوط العمل، فنهاهم الله عن رفع الصوت؛ لئلا يفضي إلى الكفر الذي يقتضي الحبوط، ولا ريب أن المعصية قد تكون سبباً للكفر، كما قال بعض السلف: المعاصي بريد الكفر، فينهى عن المعصية خشية أن تفضي إلى الكفر المحبط، كما قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:٦٣]، فهذا تخويف، للذي يخالف أمر الله وعليه أن يحذر، وقوله: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:٦٣] هو الشرك، ولهذا قال بعضهم: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، ولعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الفتنة فيهلك، وإبليس خالف أمر الله فصار كافراً، وغيره خالف أمر الله فأصابه عذاب أليم.
إذاً: الذي يخالف أمر الله قد يكون كافراً كإبليس، وقد يكون عاصياً يعرض نفسه للعذاب الأليم كالعاصي.