[أوصاف المنافقين في سورة الحشر]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى في سورة الحشر: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ * لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر:١١ - ١٣]].
هذه الآيات في سورة الحشر، يقول الله سبحانه وتعالى فيها: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا} [الحشر:١١]؛ ولأنهم منافقون {يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحشر:١١] وهم اليهود.
وذلك أن عبد الله بن أبي وغيره من المنافقين جاءوا إلى يهود بني قريظة، وحرضوهم على نقض العهد، وقالوا لهم: نحن معكم؛ إن قاتلكم محمد قاتلنا معكم، وإن أخرجكم خرجنا معكم، فهؤلاء المنافقون يمنون اليهود بهذا الكلام، وهم أجبن من أن يقاتلوا؛ ولهذا أنزل الله فيهم قوله: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ} [الحشر:١١] يعني: من المدينة {لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} [الحشر:١١] فبين كذبهم بقوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [الحشر:١١ - ١٢]، وهذا وصف المنافقين بأنهم كذبة.
وعندما أخرج اليهود لم يخرجوا معهم، بل ما استطاعوا الخروج، ولما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم بني قريظة لم ينصروهم، ولا قربوا منهم، فهم يخشون على أنفسهم، ولو قاتلوا على الفرض والتقدير، لولوا منهزمين، قال الله تعالى في وصفهم: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر:١٣]، هذا وصف المنافقين بأنهم يخشون المؤمنين ويخافونهم أشد من خوفهم من الله؛ لأنهم ليس عندهم إيمان، فلو كان عندهم إيمان لخافوا الله، ولكنهم يخافون من المؤمنين أن يطلعوا على ما في نفوسهم من النفاق فيقتلونهم، {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر:١٣].
ثم ذكر الله من أوصاف اليهود، فقال: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر:١٤]، وهذا الوصف هو أنهم لا يقاتلون، وهنا وصف بالجبن والهلع، فلا يقاتلون إلا في قرى محصنة أي: من وراء حصون، ولا يبرزون إلى الصحاري؛ لأنهم لا يؤمنون ولا يرجون الشهادة، {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الحشر:١٤ - ١٥].
ثم ضرب الله مثلين، مثلاً بالذين من قبلهم من الذين ذاقوا وبال أمرهم، والمثل الثاني هو الشيطان في قوله: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:١٦].
أي: ومثل المنافقين عندما يحرضون المنافقين على نقض العهد ويقولون لهم: إننا معكم، وهم يكذبون في ذلك، فلما نقضوا العهد تركوهم، فمثلهم هذا كمثل الشيطان عندما دعا الإنسان للكفر؛ فلما كفر تبرأ منه.
وقد جاء في سبب نزول هذه الآية: أنها نزلت في عابد جاءه الشيطان، فلم يزل به حتى زنى بامرأة وحملت، ثم قتل الولد، فأخذ وصلب، فجاءه الشيطان وقال له: أنا الذي فعلت بك كذا وكذا، وأنا الذي أخلصك إذا فعلت شيئاً واحداً، قال: وما هو؟ قال: تومئ لي برأسك بالسجود، فأومأ له برأسه بالسجود، فقال: أنا بريء منك، فتبرأ منه، فأنزل الله: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} [الحشر:١٦].
ووجه الشبه أن المنافقين قالوا لليهود: انقضوا العهد، وقاتلوا محمداً ونحن معكم، فلما نقضوا العهد تبرءوا منهم، وهذا المثل {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر:١٦ - ١٧]، نسأل الله السلامة والعافية.
وقد ذكر الله هذه الأوصاف تحذيراً لنا؛ لئلا يصيبنا ما أصابهم.