[صفات المنافقين في أول سورة البقرة]
قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:٨] الآيات في صفة المنافقين].
أي: ذكر الله في صفات المنافين الذين هم كفار في الباطن ومسلمون في الظاهر ثلاث عشرة آية.
الكفار ظاهراً وباطناً ذكرهم الله في آيتين؛ لوضوح أمرهم, أما العدو اللدود فهو المنافق الذي يعيش بين المسلمين، ولهذا فإن عبد الله بن أبي رئيس المنافقين كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأحياناً يخطب في الناس ويقول: اتبعوا هذا النبي، وهو كذاب، هذا من النفاق، وكان يجاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يدبر المؤامرات ويخطط الخطط للقضاء على الإسلام والمسلمين، وهذا العدو المستور الذي يلتبس أمره على كثير من الناس جلى الله صفاته حتى لا ينخدع الناس به، فذكر الله في ذلك ثلاث عشرة آية.
قال المؤلف: (إلى أن ضرب لهما مثلين أحدهما بالنار والآخر بالماء) أي: ضرب الله لهم مثلين: مثلاً نارياً، ومثلاً مائياً.
قال فيهم سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:٨] فهذا هو الوصف الأول: أنهم يؤمنون بألسنتهم ويكذبون بقلوبهم، فقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ) يعني: بألسنتهم، (وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) يعني: بقلوبهم.
وهنا إشكال، وهو: كيف أثبت الله لهم الإيمان ونفاه عنهم، فهل هذا تناقص؟
و
الجواب
معاذ الله! فإن شرط التناقض اتحاد الجهة كما هو معروف عند المناطقة وغيرهم، والجهة هنا منفكة، فإذا ورد النفي والإثبات على محل واحد كان تناقضاً، لكن إذا كان النفي في جهة والإثبات في جهة فلا يكون هناك تناقض، لأن الجهة منفكة، وهنا الجهة منفكة عن الأخرى، فقول الله تعالى: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ)) أثبت لهم الإيمان من جهة اللسان.
وقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:٨] نفى عنهم الإيمان من جهة القلب، فالإثبات مسلط على اللسان، والنفي مسلط على القلب، والمعنى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ) بألسنتهم، (وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) بقلوبهم، كما قال سبحانه وتعالى في الآية الأخرى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:١] فقوله: (قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه) أي: بألسنتهم, وقوله: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) أي: بقلوبهم، نسأل الله العافية.
الوصف الثاني: قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:٩]، فوصفهم الله بالخداع له وللمؤمنين، فيخادعون الله بإظهارهم الإيمان، ويظنون أن هذا ينفعهم، ويخادعون المؤمنين ويظنون أنه تنطلي مكائدهم وتدبيراتهم، وهي لا تنطلي، فالله تعالى عليم بأحوال الناس، والمؤمنون لابد أن يعلموا، إذ قد بين الله لهم وصف هؤلاء المنافقين.
وقوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} [البقرة:٩] أي: أن خداعهم يعود على أنفسهم فيضرهم.
قوله: (وَمَا يَشْعُرُون) أي: وما يشعرون أن ضرر خداعهم راجع إليهم.
ثم جاءت الآية الثالثة فقال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة:١٠] وهو مرض الشك والريب والتردد، فليس عندهم علم ولا يقين.
والمنافقون أقسام: منهم من هو مكذب، ومنهم من عنده شك وريب، ومنهم من يؤمن تارة ويكفر تارة، نسأل الله السلامة والعافية.
قال تعالى: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:١٠] أي: إلى مرض الشبهة والشك، فالمرض مرضان: مرض جسمي، ومرض قلبي، فالمرض الجسمي أمره هين، وعلاجه عند الأطباء، والثاني مرض القلب، وهذا هو المصيبة.
ومرض القلب ينقسم إلى قسمين: مرض شبهة وشك، ومرض شهوة.
فمرض الشبهة والشك هو الأشد؛ لأنه مرض في الاعتقاد، وشك في العقيدة.
ومرض شهوة المعاصي كمن يحب الزنا والفواحش, ويحب الغناء، فهذا عنده مرض شهوة المعاصي، قال الله تعالى في سورة الأحزاب مخاطباً لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:٣٢] أي: مرض الشهوة، فنهيت المرأة عن الخضوع بالقول؛ لأنها إذا رخمت الصوت وحسنته طمع فيها الفاسق، لكن إذا تكلمت كلاماً عادياً لم يطمع فيها، وإن كانت المرأة مأمورة بخفض صوتها حتى لا يفتتن بصوتها فلا تخاطب إلا بقدر الحاجة وبقدر الضرورة، لكنها مع ذلك ليس لها أن تخضع بالقول.
فالمقصود أن مرض القلب مرضان: مرض شهوة، ومرض شبهة، وأشدهما مرض الشبهة والشك؛ لأنه في العقيدة، وهذا هو الذي أصاب المنافقين، والعياذ بالله، قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:١٠]؛ لأن المرض يزيد وينقص، والكفر يزيد وينقص، والإيمان يزيد وينقص.
قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:١٠] فتوعدهم الله بالعذاب بما كانوا يكذبون، حيث إنهم أظهروا الإيمان بألسنتهم وقلوبهم مكذبة، فهم مكذبون.
الوصف الرابع: قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:١١] هذا هو الوصف الرابع، وهو أنهم يفسدون في الأرض ويسمون إفسادهم صلاحاً.
أي: من صفات المنافقين أنهم يفسدون في الأرض وينشرون الفساد ويعلنونه ويرون ذلك صلاحاً، كذلك اليوم يسمون موالاة الكفار حضارة ومدنية وسياسة وتقدماً وما أشبه ذلك، مع أنه فساد، والواجب البراءة من الكفار, والواجب التوبة من المعاصي، فهم يظهرون المعاصي والكفر وموالاة الكفار ويسمون هذا إصلاحاً.
لقد حكم الله عليهم بقوله: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:١٢].
الوصف الخامس: قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:١٣] أي: يسمون الإيمان سفهاً، ويصفون المؤمنين بالسفه، ويصفونهم بضعف العقل والبصيرة والرأي، يقولون: هؤلاء سفهاء ضعفاء البصائر.
الوصف السادس: قال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:١٤].
في هذه الآية بين الله أن للمنافقين باطناً وظاهراً، ظاهراً مع المؤمنين، وباطناً مع رؤسائهم.
قوله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة:١٤] أي: أظهروا الإيمان بألسنتهم.
قوله: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة:١٤] أي رؤسائهم وكبرائهم وسادتهم.
قوله: {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة:١٤]، أي: نحن معكم.
قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:١٤] أي: نستهزئ بالمؤمنين، وهم الصحابة، فقال الله تعالى رداً عليهم: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:١٥] هذا جزاء وعقوبة، فاستهزاء الله بهم في مقابلة استهزائهم هو صفة كمال في حق الرب، كما قال تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:٥٤] فالله تعالى يوصف بالمكر في مقابلة مكرهم، والكيد في مقابلة كيدهم، قال عز وجل: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق:١٥ - ١٦] فقابلهم الله بهذه الصفات عقوبة لهم.
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:١٦] أي: أن هؤلاء اعتاضوا عن الهدى بالضلالة، يعني: تركوا الهدى واعتاضوا عنه بالضلالة، فالشراء معناه الاعتياض.
قوله: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:١٦] أي: بل هم الخاسرون.