[إثبات الإيمان للعصاة]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد شهد لشارب الخمر المجلود مرات بأنه يحب الله ورسوله ونهى عن لعنه، ومعلوم أن من أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحبه الله ورسوله بقدر ذلك].
هذا هو المرجح السابع من مرجحات مذهب جمهور السلف والخلف القائلين بأن الذين وصفوا بالإسلام دون الإيمان ليسوا منافقين، وإنما معهم أصل الإيمان، خلافاً لطائفة من أهل السنة على رأسهم الإمام البخاري وجماعة حينما قالوا: إن هؤلاء منافقون.
فالمرجح السابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد شهد لشارب الخمر بأنه يحب الله ورسوله ونهى عن لعنته، فالرجل الذي كان يؤتى به كثيراً ويجلد في الخمر لما لعنه رجل قال: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله، ومعلوم أن من أحب الله ورسوله أحبه الله ورسوله بقدر ذلك، والذي يحبه الله ورسوله لا يمكن أن يكون كافراً أو منافقاً؛ لأن المنافق لا يحبه الله ورسوله، فدل على أنه مؤمن.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأيضاً فإن الذين قذفوا عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، كان فيهم مسطح بن أثاثة.
وكان من أهل بدر، وقد أنزل الله فيه لما حلف أبو بكر رضي الله عنه ألا يصله: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:٢٢]].
قصة قذف عائشة معروف أنه أشاعه أهل الإثم وعلى رأسهم عبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين، كان يشيع الإفك، والإفك أسوأ الكذب، وهو قذف عائشة رضي الله عنها بالفاحشة، وذلك لما تخلفت عن الجيش وأركب هودجها الذين وكلوا بالهودج وظنوا أنها فيه لخفتها وهي كانت خرجت لحاجتها، فسار الجيش وتركها، فجاء صفوان بن المعطل السلمي وكان قد تأخر فلما رآها عرفها فخمرت وجهها بجلبابها ثم أناخ لها البعير فركبت وجعل يقودها إلى المدينة، فأشاع أهل الإفك من المنافقين وغيرهم ذلك، وعبد الله بن أبي يستوشيه ويجمعه ولكن لا يثبت عليه شيء؛ ولهذا ما جلده النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ما ثبت عليه شيء، فهو يستوشيه وينشره من بعيد، ولكن لا يتكلم به أمام أحد حتى لا يثبت عليه شيء، وهو الذي تولى كبره قال تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:١١].
وشارك في هذا وتكلم فيه بعض الصحابة، منهم حسان بن ثابت الشاعر، ومنهم مسطح بن أثاثة ابن خالة أبي بكر رضي الله عنه، وكان أبو بكر ينفق عليه لقرابته وفقره، فجلد النبي صلى الله عليه وسلم مسطح وأقام عليهم الحد ثمانين جلدة، ومعلوم أن الحد طهارة، فطهرهم الله بالحد والتوبة طهارة، فلما شارك مسطح بن أثاثة في الإفك حلف أبو بكر أن يقطع النفقة عنه، أنزل الله هذه الآية تنهى أبي بكر عن الحلف، قال الله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ} [النور:٢٢]، أي: لا يحلف {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور:٢٢].
والفضل: السعة والغنى: {أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى} [النور:٢٢]، وهو مسطح: {وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [النور:٢٢].
فـ مسطح من القرابة وهو مسكين ومهاجر، اجتمعت فيه الأوصاف، قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:٢٢].
قال أبو بكر لما نزلت هذه الآية: بلى والله أحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى النفقة التي ينفقها على مسطح.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإن قيل إن مسطحاً رضي الله عنه وأمثاله تابوا؛ لكن الله تعالى لم يشترط في الأمر بالعفو عنهم والصفح والإحسان إليهم التوبة].
إن هذه الآية أنزلها الله في أمر أبي بكر بالعفو والصفح، فإذا قيل إن مسطحاً وأصحابه تابوا إلى الله والحد طهارة وقد أقيم عليهم الحد، فيقال: الآية ليس فيها شرط التوبة وما قال الله: وليعفوا وليصفحوا إذا تابوا، فدل على أنه مأمور بالصفح والتوبة حتى ولو لم يتوبوا؛ لأنه مؤمن ولو كان عاصياً، فدل على أنه بقي على ِإيمانه وأنه ليس من المنافقين.
ووجه الدلالة: أن الله أمر أبا بكر بالعفو والصفح والنفقة ولم يشترط التوبة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذلك حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه كاتب المشركين بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أراد عمر رضي الله عنه قتله قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه قد شهد بدراً، وما يدريك أن الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم،)].
هذا هو المرجح التاسع من المرجحات أن من وصف بالإسلام دون الإيمان فإنه يبقى على إيمانه، وأن من فعل المعصية فهو باق على أصل إيمانه، وفي ذلك قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه لما كاتب المشركين بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم وتأول فقال: إنه يريد أن يضع يداً عندهم ليحموا بها أهله وعشيرته، فهذا عذره وهو صادق في ذلك، وما أنكر الله عليه وأنزل فيه صدر سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:١]، وفي آخرها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الممتحنة:١٣].
فجعل الله فعل حاطب من التولي ومع ذلك فهو مسلم من الصحابة وممن شهد بدراً.
فهذا كله من المرجحات لجمهور السلف والخلف على أن من فعل معصية فإن يبقى على إيمانه، وأن من وصف بالإسلام دون الإيمان فإنه لا يخرج بذلك عند دائرة الإيمان ولا يكون من المنافقين، ولما أراد عمر قتله وقال: دعني أضرب عنقه، وفي اللفظ الآخر: (أن عمر قال: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق فقد خان الله ورسوله و - عمر معذور؛ لأنه متأول حيث رأى حاله- فلما دعا النبي صلى الله عليه وسلم حاطباً وسأله قال: يا رسول الله! لا تعجل علي، فوالله ما فعلت ذلك رضا بالكفر بعد الإيمان وإنما أردت أن أتخذ يداً عندهم يحمون بها أهلي وعشيرتي، وإن من عندك من قريش لهم قرابات يحمون أهليهم فأردت إن فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يداً، فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فإنه قد خان الله ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما أنه قد صدقكم، وقال: أما إنه قد شهد بدراً وما يدرك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
فقصة حاطب بن أبي بلتعة دليل لجمهور السلف والخلف على بقاء الإيمان مع المعصية، وأن من وصف بالإسلام دون الإيمان فإنه لا يكون من المنافقين.