وهذا الحديث حديث عظيم، وفيه أن جبرائيل جاء للنبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل أعرابي ورآه الصحابة، فدل على أن الملك ملك الوحي، وهو أشرف الملائكة وأصل الملائكة، وأفضل الملائكة ورؤساء الملائكة ثلاثة: جبريل وميكائيل وإسرافيل، وهؤلاء الثلاثة هم رؤساء الملائكة، وذلك أن كل واحد من هؤلاء الثلاثة موكل بما فيه الحياة، فجبريل موكل بالوحي الذي به حياة القلوب والأرواح، وميكائيل موكل بالقطر والمطر والماء الذي فيه حياة الحيوانات والنباتات، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي فيه استعادة الأرواح إلى أجسادها بعد الموت، فكل واحد من هؤلاء الثلاثة موكل بما فيه الحياة، فهم رؤساء الملائكة وأصل الملائكة؛ ولهذا توسل النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستفتاح المذكور في صلاة الليل بربوبية الله لهؤلاء الأملاك الثلاثة، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل للصلاة استفتح بهذا الاستفتاح: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
هذا دعاء استفتاح كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح به في صلاة الليل، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم توسل إلى الله بربوبيته لهؤلاء الأملاك الثلاثة الذين وكلوا بما فيه الحياة، ويقال: جبرائيل وجبريل، وميكائيل وميكال.
فجبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة أعرابي، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، ثم سأله عن الإيمان، ثم سأله عن الإحسان، وجاء أن سبب مجيء جبرائيل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سلوني سلوني، فهابوا، فأرسل الله جبرائيل وجاء فسأل النبي صلى الله عليه وسلم.
فدل هذا على أن الملك يتشكل ويتصور، وأعطاه الله القدرة على ذلك، فجاء جبريل على صورة أعرابي هنا، ورآه الصحابة، وكثيراً ما يأتي في صورة دحية الكلبي وكان رجلاً جميلاً، وأما صورته التي خلقه الله عليها فله ستمائة جناح، كل جناح يملأ ما بين السماء والأرض، ورآه النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الصورة مرتين: مرة في الأرض عند البعثة عند غار حراء، فقد رأى ملكاً قاعداً بين السماء والأرض قد سد الأفق، فرعب منه رعباًَ شديداً، فغطه وقال له: اقرأ يا محمد، قال: ما أنا بقارئ، يعني: لست قارئاً، قال: اقرأ، ثلاث مرات، ويذكر في كل مرة أنه يغطه حتى يبلغ منه الجهد، وهذه تهيئة لتحمل الرسالة وأعبائها، فذهب إلى زوجه خديجة وقال: خفت أن يختلج عقلي، قالت: كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق.
ورآه مرة ثانية على هذه الصورة ليلة المعراج، حينما جاوز السبع الطباق، ورآه مرات كثيرة بطرق متعددة، وهذه المرة جاء في صورة أعرابي.