[صفات المؤمنين الصادقين في أول سورة البقرة]
أنزل في المؤمنين ظاهراً وباطناً أربع آيات تبين صفاتهم، وهي قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:٢] هذه الآية الأولى، {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:٣] هذه الآية الثانية، {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:٤] هذه الآية الثالثة، {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:٥] هذه الآية الرابعة.
وصفهم الله بأنهم المتقون، أي: اتقوا الله، واتقوا النار، واتقوا عذاب الله وسخطه، فوحدوا الله، وأخلصوا له العبادة، فالمتقي: هو الذي جعل بينه وبين النار وقاية تقيه من غضب الله وسخطه بالإيمان والتوحيد وأداء الواجبات وترك المحرمات.
ثم وصف المتقين بقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:٣] أي: ما غاب من الأمور الغيبية، والمعنى: يصدقون الله في أخباره الماضية والمستقبلة، ويصدقون الرسول عليه الصلاة والسلام في الأخبار التي أخبر بها من الأخبار الماضية والمستقبلة، كإخباره عن الأمم السابقة وعن بدء الخلق، وعن ما أخبر الله به عن نفسه من أفعاله وصفاته وأسمائه، فكل هذه من أمور الغيب، ويؤمن بما أخبر الله بأنه عليم حيكم، عزيز، وأنه مستوٍ على العرش، وأنه التواب، وأنه الرحيم، وأنه الملك، وأنه القدوس، وأنه السلام، وأنه المؤمن، وأنه المهيمن، وأنه العزيز، وأنه الجبار، وأنه المتكبر، وأنه بكل شيء عليم، وأنه خالق الخلق، وبكل ما أخبر الله به عن نفسه.
وكذلك ما أخبر به عن الأمم السابقة، وعن العرش، واللوح المحفوظ، والقلم، والسماوات، والأرضين، والنجوم.
ويؤمنون أيضاً بما أخبر الله من أخبار المستقبل مما يكون قبل الساعة، وما يكون للإنسان إذا وضع في قبره من سؤال منكر ونكير، ومن عذاب القبر ونعيمه، ويؤمن ببعث الأجساد، وإعادة الأرواح إلى أجسادها، والوقوف بين يدي الله للحساب، وتطاير الصحف، والميزان، والحوض، والصراط، والجنة، والنار، وكل هذا داخل في قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:٣].
الوصف الثاني: قوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاة} [البقرة:٣] يعني: يؤدونها كما أمر الله وكما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
والإقامة غير الصلاة، فهو لم يقل: يصلون، بل قال: يقيمون، فقد يفعل الإنسان صلاة صورية ولكن لا يقيمها، ولهذا توعد الله من فعل الصلاة مع السهو بالويل، فقال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:٤ - ٥] ولم يقل: ويل للذي يقيم الصلاة، بل له الجزاء، فمن أداها كما أمر الله وكما أمر الرسول، بإخلاص، وصدق، ومحبة، ورهبة، وأتى بها في الوقت بشروطها وخشوعها وهيئاتها وجماعتها فقد أقامها، وإلا فلا.
الوصف الثالث: قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:٣] أي: ينفقون مما رزقهم الله من الأموال التي استخلفهم فيها، ويدخل في ذلك النفقات الواجبة كالزكاة والكفارات والنفقة على الأولاد والزوجات وعلى الأقارب والمماليك والبهائم والعبيد والأرقاء، إلى غير ذلك.
الوصف الرابع: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة:٤] أي: يؤمنون بما أنزل إليك يا محمد من الكتاب والحكمة: القرآن والسنة؛ لأن السنة وحي ثانٍ، ويؤمنون أيضاً بما أنزل من قبلك على الأمم السابقة، كالتوراة التي أنزلها الله على موسى, والإنجيل الذي أنزله الله على عيسى, والزبور الذي أنزله على داود, وصحف إبراهيم وصحف موسى، وغيرها من الكتب التي لم تسم.
الوصف الخامس: قوله تعالى: {وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:٤] أي: لا يشكون، بل يتيقنون بالآخرة ويؤمنون بها، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، ويؤمنون بالبعث والجزاء والحساب والحشر والنشر، وما بعد تطاير الصحف والحوض والميزان والصراط والجنة والنار.
فهذه هي أوصافهم، وهؤلاء مؤمنون باطناً وظاهراً.
ثم بعد ذلك حكم عليهم سبحانه بالهداية في الدنيا والفلاح في الآخرة، فقال تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:٥] أي: هؤلاء هم المهديون الذين هداهم الله إلى الصراط المستقيم، وهداهم الله للحق والدين، واستقاموا على شرع الله ودينه، فهم على هدايتهم من ربهم، ليسوا ضالين كالنصارى ولا مغضوب عليهم كاليهود، بل هؤلاء أنعم الله عليهم بالعلم والعمل، فعلموا ثم عملوا فصاروا مهتدين في الدنيا، وفي الآخرة لهم الفلاح كما قال تعالى: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:٥] والفلاح: هو الحصول على المطلوب، والنجاة من المرهوب.
وأعظم ما يطلبه المسلم هو رضا الله عز وجل، والتمتع بدار كرامته وجنته، وأعظم ما يكره الإنسان ويخافه عذاب الله وسخطه والنار، فهؤلاء المتقون حصلوا على الفلاح، وحصل لهم ما يطلبون، ونجوا مما يخافون منه.
فهذه هي الآيات الأربع في صفات المؤمنين باطناً وظاهراً.