[جواب آخر على القول بأن الحسنات الماحية تكفر الذنوب بشرط اجتناب الكبائر]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأيضاً: من نام عن صلاة أو نسيها فصلاته إذا استيقظ أو ذكرها كفارة لها تبرأ بها الذمة من المطالبة، ويرتفع عنه الذم والعقاب ويستوجب بذلك المدح والثواب، وأما ما يفعله من التطوعات فلا نعلم القدر الذي يقوم ثوابه مقام ذلك، ولو علم فقد لا يمكن فعله مع سائر الواجبات، ثم إذا قدر أنه أمر بما يقوم مقام ذلك صار واجباً فلا يكون تطوعاً، والتطوعات شرعت لمزيد التقرب إلى الله تعالى، كما قال تعالى في الحديث الصحيح: (ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) الحديث.
فإذا لم يكن العبد قد أدى الفرائض كما أمر لم يحصل له مقصود النوافل ولا يظلمه الله، فإنه تعالى لا يظلم مثقال ذرة بل يقيمها مقام نظيرها من الفرائض، كمن عليه ديون لأناس يريدون أن يتطوع لهم بأشياء، فإن وفاهم وتطوع لهم كان عادلاً محسناً، وإن وفاهم ولم يتطوع كان عادلاً، وإن أعطاهم ما يقوم مقام دينهم وجعل ذلك تطوعاً كان غالطاً في جعله تطوعاً، بل يكون من الواجب الذي يستحقونه].
هذا أيضاً جواب آخر عن الاعتراض، الجواب الأول: أنه وإن كانت له استطاعة على الذنب فإن الإنسان مأمور بأداء الواجبات وترك المحرمات، ولا يكلف بترك الواجب أو بفعل المحرم لاعتماده على أن له ما يمحوه.
وجاء الجواب الثاني عن هذا الاعتراض: وهو أنه قد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك)، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن صلاة الإنسان عندما يستيقظ من النوم بدون اختياره ومن النوم الذي يكون معذوراً فيه كمن يجعل أسباباً توقظه كمنبه الساعة أو بعض أهله، فهذا معذور، ومتى استيقظ صلى، فهذا عمل بأسباب يريد أن يصلي الفرض في وقته فإذا نام مبكراً، وجعل أسباباً توقظه، لكن فاته الفرض دون اختياره، أما إنسان لا ينام إلا متأخراً أو يؤقت الساعة على موعد العمل ويستيقظ مرة واحدة لصلاته وفطوره، فهذا ليس بمعذور، فهو تعمد ترك الصلاة؛ ولهذا لما نام النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره قال: (من يكلؤ لنا الصبح؟ قال بلال: أنا)، فالتزم بذلك، فنام النبي صلى الله عليه وسلم، فلابد أن تجعل لك أسباباً توقظك، وصاحب النوم قد يكون معذوراً وقد لا يكون معذوراً، فالمعذور الذي يجعل له أسباباً توقظه: كأن يكلم بعض إخوانه أو أهله يوقظونه أو جيرانه، أو يوقت الساعة أو الجوال حتى ينتبه، وشخص لا يريد أن يصلي، فيوقت الساعة على العمل، ويستقيظ مرة واحدة لصلاته وفطوره، فهذا متعمد للتأخير، وهذا يكون مرتداً إذا كانت هذه عادته، نعوذ بالله.
ومن أخر الصلاة عن وقتها بعذر فكفارتها أن يصليها وقت ما يذكر، وكذلك الناسي؛ لأن الإنسان يعذر بالنوم والنسيان، فحديث: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) بين النبي صلى الله عليه وسلم أن كفارة الصلاة التي أخرت عن وقتها بالنوم أو بالنسيان أن يصليها حال استيقاظه وحال تذكره، وتبرأ بها الذمة فلا يطالب بها يوم القيامة، فلا يقال: صليت في غير وقتها، ويرتفع عنه الذم والعقاب، لا يذم شرعاً ولا عقلاً، وليس عليه عقوبة، ويستوجب بذلك المدح والثواب؛ لأنه أدى الفريضة بقدر استطاعته.
لكن الشخص الذي يترك الفريضة ويقول: أنا أفعل تطوعاً وحسنات تمحوها، نقول له: أولاً: إنك لا تعلم القدر الذي يقوم مقام ثواب الفريضة، ولو قدر لك أن تعلم قد لا يمكنك أن تفعله مع الواجبات، ثم لو قدر أنه أمر بتطوع يقوم مقام الفريضة نقول: صار هذا التطوع واجباً، وانتقل من كونه تطوعاً إلى كونه واجباً، أما التطوع فإنه شرع لزيادة القربة إلى الله، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي الصحيح: (وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه).
إذاً: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض من أسباب محبة الله.
قول المؤلف رحمه الله: (فإذا لم يكن العبد قد أدى الفرائض كما أمر لم يحصل له مقصود النوافل)؛ لأن الإنسان يطالب أولاً بالفرائض، ثم بعد ذلك يأتي بالنوافل فيكون من أحباب الله، لكن إذا لم يكن أدى الفريضة كيف يقال: أنه يأتي بالنوافل؟! والذي أخل بالواجبات لا يقال: إنه يأتي بالنوافل، ولكن عليه أولاً أن يكمل الواجب، ثم يأتي بالنوافل، وذمته مشغولة بالواجب، فإذا فعل تطوعاً نقول: هذا التطوع يسمى فرضاً وليس تطوعاً، ولا يكون له تطوع إلا إذا كمل الفرض.
فإذا لم يكن العبد قد أدى الفرائض كما أمر لم يحصل له مقصود النوافل ولا يظلمه الله، فإن الله لا يظلم مثقال ذرة، بل يقيمها مقام نظيرها من الفرائض.
أي: إذا أخل الإنسان أخل مثلاً بواجب من واجبات الصلاة ثم صلى النوافل، لا يكتب له النوافل، ونقول له: ذمتك مشغولة بترك الواجب، والله لا يظلمك مثقال ذرة، فالله تعالى يثمن النقص الذي حصل في فريضتك من هذه النوافل، فإذا كملت الفريضة وتمت ثم تطوعت كتب لك ثوابها.
ومثال ذلك: شخص ذمته مشغولة لشخص بألف ريال، فإذا أعطاه ألف ريال فهو عادل وإن أعطاه زيادة بدون شرط صار عادلاً محسناً، فإذا قال له: لك عندي ألف ريال لكن سأعطيك ألف ريال صدقة؛ لأنه فقير، وأوفيك الدين بعد ذلك، يقال له: كيف تتصدق عليه وذمتك مشغولة بالواجب؟! فعليك أن تجعل هذه الصدقة هي الدين الواجب، فأد الواجب ثم بعد ذلك تطوع.
كذلك الإنسان الذي يريد أن يتنفل وذمته مشغولة بالواجب نقول له: أولاً كمل الواجب، فإذا نقص الواجب يكمل من النوافل؛ ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (فإن الله لا يظلم مثقال ذرة بل يقيمها) أي: يقيم النوافل مقام نظيرها من الفرائض، كمن عليه ديون لأناس يريد أن يتطوع لهم بأشياء فإن وفاهم وتطوع وأعطاهم الزيادة كان عادلاً محسناً، وإن وفاهم ولم يتطوع ولم يعطهم زيادة كان عادلاً، وإن أعطاهم ما يقوم مقام دينهم وجعل ذلك تطوعاً كان غالطاً في جعله تطوعاً، بل يكون من الواجب الذي يستحقه صاحبه، فإن قال المدين: شخص له عندي ألف ريال وأنا أريد أن أتصدق عليه بألف ريال، نقول: هذا غلط منك، فاجعل هذه الصدقة هي قضاء الدين.
وبهذا يتبين أن الإنسان إذا أخل ببعض الواجبات ثم تطوع فالتطوع يكمل به الواجب، ولا يعطى ثواب النوافل، وإنما يكمل الواجب الذي عليه.