[الشروط الموجبة لإسقاط التوبة لعقوبة الذنب]
قال المؤلف رحمه الله: [أحدها: التوبة، وهذا متفق عليه بين المسلمين، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:٥٣].
وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:١٠٤].
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى:٢٥] وأمثال ذلك].
هذا هو السبب الأول: التوبة، فالتوبة تسقط بها عقوبة الذنب، وهذا بإجماع المسلمين وليس فيه خلاف، والتوبة عامة في كل ذنب صغير أو كبير، حتى من الكفر ومن النصرانية واليهودية والمجوسية، فإذا تاب من الزنا والسرقة وشرب الخمر وعقوق الوالدين والتعامل بالربا تاب الله عليه، وسقطت عنه عقوبة الذنب في الدنيا والآخرة، وسلم من شره في الدنيا والآخرة، لكن بشرط أن تكون التوبة نصوحاً، ليس كل من ادعى التوبة يكون تائباً، فالتوبة تنقسم إلى قسمين: توبة الكذابين وتوبة الصادقين.
فتوبة الكذابين: هو الذي يتوب بلسانه وقلبه معقود على المعصية مصر عليها، والتوبة لابد لها من شروط، فإذا وجدت الشروط صحت.
الشرط الأول: أن تكون التوبة لله، فبعض الناس يتوب لكن ليس لله، بل لأجل الدنيا، ولأجل بعض المقاصد: صلى المصلي لأمر كان يطلبه فلما انقضى الأمر لا صلى ولا صاما التوبة عبادة لابد أن تكون لله، والعبادة لا تصح إلا بشرطين: أن تكون خالصة لله، وأن تكون موافقة للشرع.
ثانياً: الإقلاع عن المعصية، ومعنى الإقلاع: ترك المعصية، فإذا كان يتعامل بالربا ترك الربا، أما أن يقول شخص: تبت من الربا، وهو يتعامل بالربا فهو كذاب، وكذلك من يعق والديه فيزعم أنه يتوب وهو مستمر على عقوق الوالدين، فهذه ليست توبة، فيجب الإقلاع عن المعصية، والذي يأكل الرشوة ويقول: أنا تائب ولكنه مستمر على أكل الرشوة هذه ليست توبة، فالإقلاع يعني: ترك المعصية.
ثالثاً: الندم على ما مضى، أن يندم ويتحسر ويتأسف.
الشرط الرابع: العزم الصادق الجازم على عدم العودة إليها مرة أخرى، وبعض الناس يريد أن يتوب في رمضان خاصة، ولكنه ينوي أنه إذا خرج رمضان عاد إلى المعاصي، فهذه ليست توبة؛ لأنه ما صمم ولا عزم على عدم العودة إلى المعصية، بل هو يريد أن يرجع إلى المعصية، وهذه توبة مؤقتة.
الشرط الخامس: رد المظلمة إلى أهلها إن كانت بينه وبين الناس، فإذا كانت المظلمة بينه وبين الناس كأن قتل شخصاً بغير حق فعليه أن يسلم نفسه لأولياء القتيل: إما أن يقتلوه قصاصاً، أو يأخذوا الدية، أو يعفوا عنه، أو إذا كان مالاً يرد المال حتى يتوب، أو شخص سرق من مال شخص أو اختلسه فإن أراد أن يتوب لابد يرد المال إليه، وإذا كانت غيبة أو نميمة يستحلهم منها، فلابد من رد المظلمة إلى أهلها إذا كانت بينك وبين الناس.
الشرط السادس: أن تكون التوبة في وقت تقبل فيه، وهو قبل بلوغ الروح إلى الحلقوم بالنسبة للشخص الواحد، ففي الحديث: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) أي: ما لم تصل الروح إلى الغرغرة، وبالنسبة لعموم الناس: ما لم تطلع الشمس من مغربها في آخر الزمان كما في الحديث: (لا تنقطع التوبة حتى تنقطع الهجرة، ولا تنقطع الهجرة حتى تطلع الشمس من مغربها).
فإذا طلعت الشمس من مغربها انتهى الأمر وكل يبقى على ما كان، المؤمن على إيمانه والكافر على كفره، قال الله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ في إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:١٥٨]، جاء في تفسير الآية: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:١٥٨]: أنها طلوع الشمس من مغربها.
فالشروط السابقة هي: الأول: أن تكون لله.
الثاني: الإقلاع عن المعصية.
الثالث: الندم على ما مضى.
الرابع: العزم على عدم العودة إليه.
الخامس: رد المظلمة إلى أهلها.
السادس: أن تكون قبل طلوع الشمس من مغربها.
والسابع: أن تكون قبل بلوغ الروح إلى الحلقوم.
الثامن: أن تكون قبل نزول العذاب، فإذا نزل العذاب لم تقبل، قال الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} [غافر:٨٤]، قال الله: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر:٨٥].
ففرعون آمن لكن بعد نزول العذاب فما نفعه، قال الله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:٩٠]، وفرعون هو الذي يقول للناس: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤] قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:٩٠]، لكن في وقت لا ينفع فيه الإيمان، قال الله: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:٩١ - ٩٢]؛ لأنه لابد أن يكون قبل نزول العذاب.
إلا طائفة من الناس استثناهم الله لما نزل العذاب تابوا ونفعتهم التوبة، وهم قوم يونس، قال الله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ} [يونس:٩٨]، لما أخبرهم نبيهم بأن العذاب نازل بهم ورأوا أسبابه تابوا فتاب الله عليهم، وجاءهم نبيهم فآمنوا، قال الله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ} [الصافات:١٤٧ - ١٤٨].
هذه أسباب ثمانية للتوبة إذا وجدت فهي توبة الصادقين، وإلا فهي توبة الكذابين.
إذاً: التوبة تمحو الذنب لكن بشروطها الثمانية كما ذكرنا.
والدليل قول الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:٥٣]، هذه الآية أجمع العلماء على أنها في التائبين؛ لأن الله أطلق وعمم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:٥٣]، ويشمل ذنب الكفر والشرك والزنا والسرقة والربا، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:٥٣] أي: لمن تاب، قال سبحانه: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:١٠٤]، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى:٢٥]، وقال سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:٨٢]، نعم.