[وجوب الابتعاد عن المعاصي والتحذير من الوقوع فيها بنية التوبة]
ثم ذكر اعتراضاً آخر فقال: فإن قيل: هذا يقال في جميع مسقطات العقاب، فيقال: إذا كان العبد يمكنه رفع العقوبة بالتوبة لم ينه عن الفعل، وإذا كان الإنسان يمكن أن ترفع عنه عقوبة الذنب بشيء من المسقطات نقول له: لا تفعل هذا الواجب ويكفيك التوبة مثلاً، أو يكفيك الاستغفار، أو تكفيك الحسنات الماحية ما دام أن الحسنات تسقط بها عقوبة ترك الوجبات.
فيقال: إذا كان العبد يمكنه رفع العقوبة بالتوبة فليس معنى ذلك أنه ينهى عن الفعل ويقال له: لا تفعل الواجبات اكتفاء بالتوبة أو بالاستغفار والحسنات؛ لأن المسلم مأمور بأن يفعل المأمور ويترك المحظور؛ ولأن ترك الواجب وفعل المحرم سبب للعقوبة، فكون الإنسان يترك الواجب أو يفعل المحرم يتسبب في عقوبته ويتسبب في ذمه، وإن كان يجوز أن تسقط عنه هذه العقوبة بمسقط من المسقطات وهي التوبة، أو الاستغفار، أو الحسنات الماحية، أو دعاء المؤمنين والصدقات، أو غير ذلك، فليس معنى ذلك: أن الإنسان يترك الواجب اكتفاء بالمسقط؛ لأن الإنسان المسلم مكلف بفعل الأوامر وترك النواهي، وإذا ترك الأوامر أو فعل النواهي فقد عرض نفسه للعقوبة؛ ولأنه قد لا يوفق لمسقط من مسقطات العقوبة، وإن كان يجوز أن تسقط عنه العقوبة لسبب من الأسباب، ومثله من يحتمي من السموم القاتلة، وإن كان مع تناوله لها يمكن رفع ضررها بأسباب من الأدوية.
فنقول للإنسان: اتق السموم القاتلة، ولا تأكل السم؛ لأن السم يقتلك فلا تتناوله، وإن كان يجوز إذا تناول سماً قاتلاً أن يأتي بأدوية ترفع هذا السم فلا يموت.
وهذا مثل من يقول: أنا أترك الواجب أو أفعل المحرم اكتفاء بأني أفعل ما يسقط هذه العقوبة عني، فنقول: يمكن أن تجد أدوية ترفع هذه السموم ويمكن ألا تجد، ثم كون الإنسان يكون سليماً من السم ليس كمن أكل السم أو تناول السم ثم أتى بشيء يرفعه فارتفع، فالأول أكمل حالاً وأحسن، وقد لا يوفق الإنسان لأدوية ترفع السم، كما أن الإنسان مأمور بفعل الأوامر وترك النواهي، فإذا ترك الأوامر أو فعل النواهي تسبب في العقوبة، وقد تسقط العقوبة بسبب من الأسباب لكن قد لا يوفق لمسقط للعقوبة؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله:(لأن الإخلال بفعل الواجبات وترك المحرمات سبب للذنب والعقاب وإن جاز مع إخلاله أن يرتفع العقاب بهذه الأسباب، كما عليه أن يحتمي من السموم القاتلة وإن كان مع تناوله لها يمكن رفع ضررها بأسباب من الأدوية، والله عليم حكيم رحيم، أمرهم -أي: أمر العباد- بما يصلحهم ونهاهم عما يفسدهم)، فالأوامر فيها صلاح للناس، والنواهي فيها سبب لفسادهم وسلب أحوالهم في الدنيا والآخرة، ثم إذا وقعوا في أسباب الهلاك لم يؤيسهم من رحمته سبحانه وتعالى، فمن زلت به القدم بفعل الكبيرة أو المعصية أو ترك الواجب لم يؤيسه الله من رحمته، بل جعل لهم أسباباً يتوصلون بها إلى رفع الضرر عنهم، فأمر العباد بما فيه صلاحهم وهو فعل الواجبات، ونهاهم عما فيه ضررهم وهو المحرمات، فيجب على المسلم أن يجاهد نفسه حتى يمتثل الأوامر ويجتنب النواهي، فإذا زلت به القدم وترك الواجب أو فعل المحرم فالله تعالى لا يؤيسه من رحمته، بل جعل أسباباً إذا فعلها سقطت هذه العقوبة، وكمل الواجب الذي أخل به، ورفعت العقوبة عن المحرم الذي فعله؛ ولهذا قيل: إن الفقيه كل الفقيه الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله ولا يجرئهم على معاصيه، فلا يقول: إن من فعل المعصية أو الكبيرة هالك ولا حيلة له، كما تقول الخوارج إن من فعل الكبيرة كفر وخلد في النار، بل يقول: إن الله جعل أسباباً ترفع العقوبة، فتب إلى الله من هذه المعصية، واستغفر، وافعل الحسنات، وهو كذلك لا يجرئهم على معاصي الله، فلا يقول: الأمر سهل وبسيط، ترك الواجب سهل، فعل المحرم سهل، التوبة تكفي والاستغفار يكفي، فلا نجرئ الناس على معاصي الله ولا نؤيسهم من رحمة الله.