[بيان مبدأ ظهور الخلاف في الدين]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [والخلاف فيه أول خلاف ظهر في الإسلام في مسائل أصول الدين].
وذلك في عصر الصحابة، فبعد قتل أمير المؤمنين عثمان، خرجت الخوارج وكفروا علياً وعثمان، وقالوا: أنتم حكمتم الرجال في كتاب الله، وأصل الخوارج رجل خرج في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الرجل الذي اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اعدل يا محمد.
ولما استأذنه خالد رضي الله عنه في قتله، قال: (اتركه فإنه سيخرج من ضئضئ هذا قوم، تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم)، فرأي الخوارج قديم أصله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه خرجت الخوارج، ثم بعده جاءت المرجئة والمعتزلة.
وكذلك الشيعة خرجوا في زمن علي رضي الله عنه وظهرت السبئية الذين غلوا فيه، وقالوا أنت الإله، فخد لهم أخدوداً وأجج لها ناراً وألقاهم فيها وهم أحياء من شدة غضبه عليهم، وقال: لما رأيت الأمر منكراً أججت ناري ودعوت قنبراً.
وإن كان هذا شاذاً من أمير المؤمنين علي، والصواب: أنه يقتل، لأنه لا يعذب بالنار إلا رب النار كما في الحديث، ولكن من شدة حنقه اجتهد وأحرقهم بالنار، فلما ألقوا في النار زادوا في الشرك وسجدوا له وقالوا: هذا هو الإله، نعوذ بالله.
قال ابن عباس رضي الله عنه: لو كنت مكان أمير المؤمنين لقتلتهم بالسيف، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يعذب بالنار إلا رب النار)، لكن اجتهد.
والصديق رضي الله عنه حرق بعض المرتدين من أهل الردة، وكذلك خالد بن الوليد حرقهم بالنار اجتهاداً، فيحتمل أن النص ما بلغهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فنقول: لما قتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وصار علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى العراق، وحصل بين الأمة من الفتنة والفرقة يوم الجمل، ثم يوم صفين ما هو مشهور؛ خرجت الخوارج المارقون على الطائفتين جميعاً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بهم، وذكر حكمهم].
بعد موقعة الجمل وصفين خرجت الخوارج، والخوارج مذهبهم مذهب فاسد باطل، وهو: تكفير المسلمين بالمعاصي، فمن فعل معصية كبيرة كفر عند الخوارج، وخرج من الإيمان، هذا في الدنيا يعاملونه معاملة الكافر، فإذا زنا قالوا: كفر، وإذا سرق كفر، وإذا عمل بالربا كفر، إذا عق والديه كفر، وإذا أكل الرشوة كفر، وإذا اغتاب كفر، وإذا نم كفر، وحكمه عندهم أنهم يقتلونه، ويحلون دمه وماله، وهو في الآخرة مخلد في النار كالكفار، وهذا المذهب خبيث.
إذاً في الدنيا يكفرونه ويستحلون دمه وماله، وفي الآخرة يخلد في النار.
ثم خرجت المعتزلة بعدهم ووافقوهم في أنه يخلد في النار، وخالفوهم في الدنيا وقالوا: لا نسميه كافراً؛ لأن النصوص دلت على أنه خرج من الإيمان، ولم يدخل في الكفر؛ فقالوا: هو في منزلة بين منزلتين.
والمرجئة قالوا: هو مؤمن كامل الإيمان، فلو فعل جميع الكبائر والمنكرات فلا يضره ما دام أنه مصدق، بل هو مؤمن كامل الإيمان يدخل الجنة من أول وهلة.
وأهل السنة وهم الطائفة الرابعة قالوا: هو مؤمن ضعيف الإيمان، ولا يقتل كالكافر، لكن يقام عليه الحد، فإذا زنى يقام عليه الحد، وإذا سرق يقام عليه الحد وتقطع يده، وهو في الآخرة تحت مشيئة الله، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:٤٨]، قد يعفو الله عنه، وقد يعذبه على قدر ذنوبه، وإذا عذب دخل النار ولم يخلد، وبعض العصاة يطول مكثه لكن له نهاية فيخرج، ولا يخلد إلا الكفرة.
فهذه مباحث دقيقة ومسائل دقيقة جداً وخطيرة في نفس الوقت؛ لأن بعض الناس يسلك مسلك الخوارج وهو لا يشعر، وبعض الناس يسلك مسلك الجهمية وهو لا يشعر، وبعض الناس يسلك مسلك المعتزلة، فلابد أن يكون المسلم عنده التحقيق في هذا المقال، ويجمع بين النصوص من كتاب الله وسنة رسوله، ويعمل بها من الجانبين.
والخوارج لا يعملون إلا ببعض النصوص، فيعملون بنصوص الوعيد، وأغمضوا أعينهم عن نصوص الوعد، فكفروا العصاة وخلدوهم في النار.
والمرجئة يعملون ببعض النصوص، كنصوص الوعد، وأهملوا نصوص الوعيد، فصاروا يقولون: إن العاصي كامل الإيمان، ويدخل الجنة من أول وهلة.
وأهل السنة وفقهم الله فأخذوا نصوص الوعيد وصفعوا بها وجوه المرجئة وأبطلوا مذهبهم، وأخذوا نصوص الوعد وصفعوا بها وجوه الخوارج وأبطلوا مذهبهم، وأخذوا نصوص الوعيد فاحتجوا بها على أن المؤمن يضعف إيمانه، ونصوص الوعد فاحتجوا بها على أنه لا يخرج من الإسلام، فخرج مذهب أهل السنة من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين، من بين فرث الخوارج ودم المرجئة.