[تقرير مذهب الجمهور]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، وأمثال ذلك].
هؤلاء نفي عنهم الإيمان لضعفهم مثل الأعراب.
والمؤلف رحمه الله يقرر بهذا مذهب الجمهور، وأن هؤلاء الذين نفي عنهم الإيمان وأثبت لهم الإسلام ليسوا منافقين ولكن إيمانهم ضعيف، فلهذا نفى عنهم الإيمان الكامل وإن كان معهم أصل الإيمان الذي يصح به الإسلام، والإسلام لابد له من إيمان يصححه، فالمسلم لابد أن يكون مؤمناً بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان الذي يصحح الإسلام لابد منه، لكن الإيمان المكمل هو الذي نفي عنهم، والمثبت لهم أصل الإيمان.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فدل البيان على أن الإيمان المنفي عن هؤلاء الأعراب: هو هذا الإيمان الذي نفي عن فساق أهل القبلة الذين لا يخلدون في النار].
الإيمان الذي نفي عن الأعراب في قوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:١٤]، هو الإيمان الذي نفي عن الفساق في الحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن)، والفاسق عندما ينفى عنه الإيمان ليس بكافر، وإنما ينفى عنه الكمال؛ لأن عنده أصل الإيمان الذي يصح به الإسلام، فهو مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، فكذلك الأعراب أثبت لهم أصل الإيمان ونفي عنهم كمال الإيمان وتحقيقه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [بل قد يكون مع أحدهم مثقال ذرة من إيمان، ونفي هذا الإيمان لا يقتضي ثبوت الكفر الذي يخلد صاحبه في النار].
يعني: أن نفي الإيمان هنا معناه: نفي كمال الإيمان، لا أنه يكون كافراً، كما في الحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، فالذي نفي عنه هو كمال الإيمان ولا يقتضي الكفر، بل يقتضي حدوث أصل الإيمان، إنما الذي يقتضي الكفر هو نفي أصل الإيمان.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وبتحقق هذا المقام يزول الاشتباه في هذا الموضع، ويعلم أن في المسلمين قسماً ليس هو منافقاً محضاً في الدرك الأسفل من النار، وليس هو من المؤمنين الذين قيل فيهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:١٥].
ولا من الذين قيل فيهم: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:٧٤].
فلا هم منافقون ولا هم من هؤلاء الصادقين المؤمنين حقاً، ولا من الذين يدخلون الجنة بلا عقاب، بل له طاعات ومعاص وحسنات وسيئات، ومعه من الإيمان ما لا يخلد معه في النار.
وله من الكبائر ما يستوجب دخول النار، وهذا القسم قد يسميه بعض الناس: الفاسق الملي، وهذا مما تنازع الناس في اسمه وحكمه].
بتحقيق هذا المقام يزول الاشتباه في هذا الموضع؛ لأن هذا الموضع موضع اشتباه، ووجه ذلك أن الخوارج لما سمعوا: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:١٤]، وقوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، كفروه، وقالوا: نفي عنه الإيمان لكفره، فاشتبه عليهم الأمر، واشتبهت عليهم النصوص، ولم يجمعوا بينها.
وأما المرجئة فقالوا: هو مؤمن كامل الإيمان.
وهدى الله أهل السنة والجماعة فجمعوا بين النصوص.
وبتحقيق هذا المقام في هذا الموضع، الذي فيه نصوص أثبتت الإسلام لقوم ونفت عنهم الإيمان علم أن في المسلمين قسماً ليس هو منافقاً محضاً في الدرك الأسفل من النار وليس هو من المؤمنين الكمل، الذين حققوا الإيمان.
فهو مؤمن ضعيف الإيمان، وليس من المؤمنين الذين قيل فيهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:١٥]، ولا من الذين قيل فيهم: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:٤]، كما في سورة الأنفال، فلا هم منافقون، ولا هم من هؤلاء الصادقين المؤمنين حقاً، ولا هم من الذين يدخلون الجنة بلا عقاب، بل لهم طاعات ومعاصي، فالناس أربعة أصناف، وكلها داخلة في مسمى الإسلام، وهم الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، وهؤلاء يثبت لهم الإسلام وينفى عنهم الإيمان، القسم الثاني الصادقون المؤمنون حقاً، وهم الذين أدوا الواجبات وتركوا المحرمات، قال الله عنهم: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:١٥]، {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:٤].
القسم الثالث: الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، وهم الذين أحكموا التوحيد وخلصوه ونقوه من شوائب الشرك والبدع ونحو ذلك.
القسم الرابع: المؤمنون ضعيفو الإيمان، الذين لهم طاعات وحسنات ومعاص وسيئات، ومعهم من الإيمان ما يمنع الخلود في النار، ومعهم من الكبائر ما يقتضي دخول النار، وهذا هو الذي وصف به الأعراب والزاني والسارق الذين نفي عنهم الإيمان في قوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:١٤] والحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن).
فهذه أربعة أصناف كلها داخلة في مسمى الإسلام غير الكفار، والكافر هو القسم الخامس.
فالكافر ظاهراً وباطناً ليس بمؤمن، ويشمل اليهود والنصارى والوثنيين والمجوس والشيوعيين والملاحدة جميعاً، فكلهم أظهروا كفرهم، وهم صنف واحد.
والصنف الرابع الذين لهم طاعات وحسنات ولهم معاص وسيئات، فليس معهم كمال الإيمان، بل معهم من الإيمان ما لا يخلد في النار ولهم كبائر يستوجبون بها دخول النار- فهم تحت مشيئة الله، قد يعفو الله عنهم ويدخلهم الجنة من أول وهلة، وقد يعذبهم ولكن لا يخلدون، وقد يكون مخلداً في النار على حسب الجرائم؛ لأنه تواترت الأخبار أنه يدخل النار جملة من أهل الكبائر مؤمنون مصدقون لكنهم دخلوا النار بالمعاصي، كمن مات على سرقة أو زنا أو عقوق، وبعضهم يكون مكثراً حتى أنه يخلد كالقاتل، والمراد بالخلود: طول المكث، أي: يمكث مدة طويلة ولكن لا يخلد، فالخلود خلودان: خلود مؤبد لا نهاية له، وهذا خلود الكفرة، والثاني: خلود مؤقت، له أمد ونهاية، وهو خلود بعض العصاة الذين اشتدت جرائمهم وكثرت وفحشت كالقاتل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:٩٣]، لكنه ليس بكافر إلا إذا استحل، فإذا رأى أن القتل حلال كفر.
كذلك المرابي إذا تعامل بالربا فهو ضعيف الإيمان، إلا إذا اعتقد أن الربا حلال كفر.
فهذا القسم هم الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، وهم الذين قال الله فيهم: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:١٤]، فمعهم أصل الإيمان الذي يمنعهم من الخلود في النار كالكفرة، ومعهم كبائر يستوجبون بها دخول النار كالعصاة، وهذا القسم يسميه بعض الناس الفاسق الملي.
والفاسق هو الذي دخل في ملة الإسلام مثل الزاني والسارق وشارب الخمر والمرابي والقاتل، وهذا مما تنازع الناس في اسمه وحكمه، فأهل السنة يسمونه مؤمناً ناقص الإيمان، والخوارج يسمونه كافراً، والمعتزلة يقولون: خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، والمرجئة يسمونه مؤمناً كامل الإيمان.
هذا في الاسم، وأما في الحكم فأهل السنة يقولون: هو تحت مشيئة الله، والخوارج يقولون: مخلد في النار، والمعتزلة: مخلد في النار، والمرجئة: يدخل الجنة من أول وهلة.