[الخلاف في وقوع الاستغفار بدون توبة]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد يقال على هذا الوجه: الاستغفار هو مع التوبة، كما جاء في حديث: (ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم مائة مرة).
وقد يقال: بل الاستغفار بدون التوبة ممكن واقع، وبسط هذا له موضع آخر، فإن هذا الاستغفار إذا كان مع التوبة مما يحكم به عام في كل تائب، وإن لم يكن مع التوبة فيكون في حق بعض المستغفرين الذين قد يحصل لهم عند الاستغفار من الخشية والإنابة ما يمحو الذنب، كما في حديث البطاقة بأن قول لا إله إلا الله ثقلت بتلك السيئات لما قالها بنوع من الصدق والإخلاص الذي يمحو السيئات، وكما غفر للبغي بسقي الكلب لما حصل في قلبها إذ ذاك من الإيمان، وأمثال ذلك كثير].
وهذا اعتراض وجواب عنه، الاعتراض: أنه قد يقال: الاستغفار هو مع التوبة، أي: الاستغفار والتوبة شيء واحد فلابد أن يكون مع التوبة، ولا ينفع بدونها، وعلى هذا يكون السببان سبب واحد، التوبة والاستغفار شيء واحد، واستدل المعترض بحديث: (ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم مائة مرة)، أخرجه أبو داود والترمذي وابن السني والبغوي.
وقال الترمذي بعد أن ساقه: هذا حديث غريب، إنما نعرفه من حديث أبي نصيرة وليس إسناده بالقوي.
ومع ذلك فقد حسنه الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره، في المجلد الأول، وعلى كل حال لعل الحافظ حسنه بشواهده، فالحديث له شواهد، وكذلك أيضاً شيخ الإسلام رحمه الله لعله ساقه هنا لأنه يرى أنه ثابت وأنه حسن بشواهده.
فالمقصود: أن الاعتراض على هذا الوجه أن يقال: الاستغفار مع التوبة شيء واحد، وقد أجاب المؤلف رحمه الله فقال: الاستغفار إذا كان مع التوبة فليس فيه إشكال، ويغفر الذنب، لكن قد يوجد الاستغفار بدون التوبة وينفع؛ ولهذا قال المؤلف: قد يقال: (الاستغفار بدون التوبة ممكن واقع وبسط هذا له موضع آخر، فإن هذا الاستغفار إذا كان مع التوبة مما يحكم به عامة فكل شخص يصدر منه التوبة مع الاستغفار فهو مغفور له، لكن قد يكون الاستغفار بدون التوبة وينفع في حق بعض الناس دون البعض الآخر)، فالمؤلف رحمه الله يجيب عن الاعتراض ويقول: إذا اعترض بعض الناس وقال: الاستغفار هو التوبة والتوبة هي الاستغفار، نقول: نعم، إذا كان الاستغفار مع التوبة فهذا عام في كل شخص، وعام في كل معصية، لكن قد يوجد استغفار بدون توبة وينفع، ولكن هذا في حق بعض الناس دون البعض، وبعض الناس يستغفر ولم يتب، لكن يحصل له عند الاستغفار من الخشية والإنابة ما يمحو الله به خطيئته بسبب ما قارن الاستغفار من الانكسار والخشية والإنابة إلى الله كما في حديث البطاقة، وحديث البطاقة حديث مشهور، وهو أرجى حديث لأهل السنة والجماعة، وهو أرجى حديث للعصاة، وخلاصته: (أنه يؤتى يوم القيامة برجل فينشر له تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مد البصر سيئات، فيقول الله: أتنكر من هذا شيئاً؟ قال: لا والله يا رب، فيقول الله: هل لك حسنة يقول: لا والله ما أذكر شيئاً يا رب، فيقول الله: بلى فإنك لا تظلم، فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فتوضع البطاقة التي فيها الشهادتان في كفة وتوضع السجلات في كفة، فثقلت البطاقة وطاشت السجلات فغفر الله له)، فرجحت البطاقة التي فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله وخفت بطاقة السيئات، فغفر الله له.
ومعلوم أن كل مسلم له مثل هذه البطاقة، وكل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومع ذلك يعذب بعضهم بالنار، وهذا لم يعذب فبعض الناس قال: لأن هذه البطاقة التي فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله قالها عن توبة وإخلاص، ولهذا نقول: إذا تاب فالتوبة تكفيه، وصاحب البطاقة ثقلت بطاقته بتلك السيئات؛ لأنه قالها بنوع من الصدق والإخلاص الذي يمحو السيئات، وقارن الشهادتين نوع من الإخلاص والصدق، وكثير من الناس يقولونها وليس عندهم صدق وإخلاص فلهذا يعذبون بسيئاتهم، أما هذا فغفر له بسبب أنه قال هذه البطاقة بنوع من الصدق والإخلاص الذي يمحو السيئات، فكذلك المستغفر، أي: إذا استغفر عن خشية وإنابة يمحو الله بهذا الاستغفار الذنب ولو لم يتب.
قوله: (وكما غفر للبغي بسقي الكلب) والبغي الزانية من بني إسرائيل والحديث فيه: (أن امرأة بغياً من بني إسرائيل مرت بركية بئر فوجدت كلباً يلهث يكاد يأكل الثرى من العطش، فنزلت في البئر وملأت خفها ماء وأخرجته وسقت الكلب، فغفر الله لها ذنبها) غفر لها ذنبها العظيم وهو الزنا بسقيها الكلب، ومعلوم أنه قد يسقي بعض العصاة كلباً أو غيره ولا يغفر له، وهذه المرأة غفر لها بسبب أنه حصل في قلبها إذ ذاك الإيمان والصدق والإخلاص؛ فلهذا غفر الله لها.
فكذلك بعض المستغفرين يستغفر عن توبة وخشية وإنابة فيغفر له، وبعض المستغفرين يستغفر ولكن لا يكون عنده خشية ولا إنابة فلا يغفر له إلا إذا تاب، وبهذا يكون المؤلف أجاب عن هذا الاعتراض.