[الرد على استدلال الخوارج والمعتزلة]
المؤلف رحمه الله يقول: والجواب الصحيح عن هذه الآية رداً على الخوارج والمعتزلة والمرجئة: أن المراد بقوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:٢٧]، من اتقى الله في ذلك العمل الذي يعمله، فإذا كان متقياً في ذلك العمل تقبل الله منه، وإن كان غير متق لله لا يتقبله منه، ويتقبل الله العمل إذا كان خالصاً لله وصواباً على شرع الله، فإذا كان العمل خالصاً لله وصواباً لله صار من المتقين في ذلك الأمر، وإن لم يكن خالصاً ولا صواباً لم يكن من المتقين، فإذا كان خالصاً وصواباً قبل الله منه؛ لأنه متق، وإذا كان ليس خالص ولا صواباً فلا يقبل منه.
إذاً: الجواب الصحيح هو: أن المراد بذلك من اتقى الله في ذلك العمل كما قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:٧]، قال: أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي! ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكون صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة، فمن عمل لغير الله كأهل الرياء لم يقبل منه ذلك، المرائي لا يقبل الله منه عمل، كما في الحديث الصحيح يقول الله عز وجل في: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي فيه غيري فأنا بريء منه، وهو كله للذي أشركه به)، رواه ابن ماجة والبغوي.
وفي رواية مسلم: (من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)، وفي الحديث الصحيح: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول)، وقال: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار)، كل هذا فيه نفي القبول، فكذلك العمل الذي فيه رياء لا يقبله الله، والعمل الذي ليس موافقاً أو فيه شرك لا يقبله الله، والعمل الذي ليس موافقاً للشرع مردود.
وقال في الحديث الصحيح: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم في صحيحه، وفي الصحيحين: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)؛ لأنه مخالف للشرع، أي: فهو مردود غير مقبول، فمن اتقى الكفر وعمل عملاً ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل منه، وإذا اتقى الكفر كما تقول الخوارج ثم عمل عملاً بدعة لا يقبل، أو عمل عملاً ليس بدعة موافق للشرع لكنه ليس خالصاً لله فلا يقبل، فإذا صلى اتقى الكفر؛ لكنه إن صلى بغير وضوء لم يقبل منه؛ لأنه ليس متقياً في ذلك العمل وإن كان متقياً للشرك، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:٦٠]، وفي حديث عائشة أنها قالت: (يا رسول الله! أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف أن يعذب؟ قال: لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصلى ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه)، فهو قد اتقى الشرك، ومع ذلك يخاف ألا يقبل منه.
قول المؤلف: (وخوف من خاف من السلف ألا يتقبل منه لخوفه ألا يكون أتى بالعمل على وجهه المعروف)، فالسلف كانوا يخافون ألا يقبل منهم، ويخشون أن يكونوا قصروا في هذا العمل فلم يأتوا به موافقاً للشرع.
قول المؤلف: (وهذا أظهر الوجوه في استثناء من استثنى منهم في الإيمان وفي أعمال البر، كقول أحدهم: أنا مؤمن إن شاء الله، وصليت إن شاء الله)، فهم يستثنون لأن أعمال الإيمان متعددة، وأحدهم يخشى ألا يكون قد أدى الواجبات، فهو يستثني ويقول: أنا مؤمن إن شاء الله لا على جهة الشك فيما بقلبه من تصديق.
(ولا يجوز أن يراد بالآية: إن الله لا يقبل العمل إلا لمن يتقي الذنوب كلها؛ لأن الكافر والفاسق حين يريد أن يتوب ليس متقياً، ومع ذلك إذا تاب قبل الله توبته، فإن كان قبول العمل مشروطاً بكون الفاعل حين فعله لا ذنب له امتنع معه قبول التوبة)، أي: لو قيل إن العمل لا يقبل حتى يكون الإنسان ليس له ذنب لكان معنى ذلك أنه لا تقبل التوبة؛ لأن الشخص حينما يريد أن يتوب يكون متلبساً بالمعاصي.
فقول الخوارج والمعتزلة في قوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:٢٧] إنه الذي ليس له ذنب ولا معصية، باطل، بخلاف ما إذا اشترط التقوى في العمل، فإذا أتى بالتقوى في العمل فإن التائب حين يتوب يأتي بالتوبة الواجبة، أي: إذا اتقى في العمل تكون التوبة لله موافقة للشرع، وهو حين شروعه في توبة منتقل من الشر إلى الخير ولم يخلص من الذنب، بل هو متق في حال تخلصه منه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأيضاً: فلو أتى الإنسان بأعمال البر وهو مصر على كبيرة ثم تاب لوجب أن تسقط سيئاته بالتوبة وتقبل منه تلك الحسنات، وهو حين أتى بها كان فاسقاً].
أي: لو أتى الإنسان بأعمال البر كأن أتى بالحسنات من حج وصام وبر والديه لكنه مصر على التعامل بالربا ثم تاب فعلى معتقد الخوارج لا تقبل؛ لأنه مصر على المعاصي.
والصواب: أنه إذا تاب فإن الله يقبل توبته، وتسقط السيئات بالتوبة وتقبل منه تلك الحسنات، ولو كان حين أتى بها فاسقاً كأن كان مصراً على كبيرة ثم تاب يقبل الله توبته وتقبل منه حسناته خلافاً للخوارج والمعتزلة.