للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ظهور المعتزلة وإنكارهم الشفاعة للعصاة]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [فلما شاع في الأمة أمر الخوارج تكلمت الصحابة رضي الله عنهم فيهم، ورووا عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الأحاديث فيهم، وبينوا ما في القرآن من الرد عليهم، وظهرت بدعتهم في العامة.

فجاء بعدهم المعتزلة الذين اعتزلوا الجماعة بعد موت الحسن البصري رحمه الله، وهم: عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء الغزال وأتباعهما].

لما شاع في الأمة أمر الخوارج تكلمت الصحابة فيهم وبينوا بدعتهم وحذروا الناس منهم، ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث فيهم، وسبق أن الأحاديث في الخوارج كلها صحيحة، وفيهم عشرة أحاديث في الصحيحين وفي غيرهما، بخلاف الأحاديث التي في القدرية فرفعها ضعيف ووقفها أصح.

فبدعة الخوارج أول البدع ظهوراً، ظهرت في أواخر عهد الصحابة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، ثم بعد ذلك ظهرت بدعة المعتزلة في أوائل عهد التابعين في أوائل المائة الثانية، وسببها: أن الحسن البصري -وهو تابعي جليل- كان له حلقة يدرس فجاء رجل فسأل الحسن البصري عن العاصي وعن الفاسق فأجابه، وكان في حلقته عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء فاعترضا على شيخهما فقال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إنه مؤمن ولا أقول إنه كافر، ثم جلس في حلقة مستقلة واعتزل حلقة شيخه الحسن البصري، ومن ذلك الوقت سموا معتزلة؛ لأنهم اعتزلوا حلقة شيخهم الحسن البصري.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقالوا: أهل الكبائر يخلدون في النار كما قالت الخوارج، ولا نسميهم لا مؤمنين ولا كفاراً بل فساق ننزلهم منزلة بين منزلتين].

هذا مذهب المعتزلة وقد قالوا: أن أهل الكبائر مخلدون في النار كما قالت الخوارج، فهم يوافقون الخوارج في تخليد العاصي في النار في الآخرة، أما في الدنيا فيخالفونهم، فالخوارج يقولون: إذا فعل الكبيرة خرج من الإيمان ودخل في الكفر، والمعتزلة يقولون: خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، وصار في منزلة بين المنزلتين لا مؤمناً ولا كافراً، ويقولون: نسميه فاسقاً، والحقيقة أنه ليس هناك منزلة بين الإيمان الكفر، والناس إما مؤمن أو كافر، وهم اختلقوا من عند أنفسهم منزلة بين المنزلتين.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، وأن يخرج أحد من النار بعد أن دخلها].

إنكار الشفاعة مشترك بين المعتزلة والخوارج، فكلهم أنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، وقالوا: إن العاصي مخلد في النار لا شفاعة له، واستدلوا بالآيات التي جاءت في الكفار كقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:٤٨]، وقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:٢٥٤]، وقوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:١٨].

فهذه الآيات في الكفار حملوها على المؤمنين فقالوا: ليس لهم نصيب في الشفاعة، ولا يمكن أن يخرج أحد من النار بعد دخولها أبداً، فالزاني والسارق وشارب الخمر والكافر كلهم مخلدون في النار، ولا يمكن أن يشفع في أحد، ولا يمكن أن يخرج أحد من النار بعد دخولها مع أن الأحاديث في إخراج العصاة الموحدين بلغت حد التواتر ومع ذلك أنكرها الخوارج والمعتزلة، فأنكر عليهم أهل السنة وصاحوا بهم وبدعوهم وضللوهم وفسقوهم، وقالوا: كيف تنكرون النصوص وهي متواترة ولا حصر لها، والنبي صلى الله عليه وسلم يشفع أربع شفاعات، والأنبياء يشفعون، والملائكة يشفعون، والشهداء يشفعون، والأفراط يشفعون، فكيف تنكرون الشفاعة ونصوصها متواترة؟ قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقالوا: ما الناس إلا رجلان سعيد لا يعذب أو شقي لا ينعم، والشقي نوعان: كافر وفاسق، ولم يوافقوا الخوارج على تسميتهم كفارا].

المعتزلة قالوا: الناس رجلان سعيد لا يعذب أو شقي لا ينعم، والسعيد الذي لا يعذب هو الموحد الذي أدى الواجبات وترك المحرمات، والشقي نوعان: كافر أتى بالكفر ومات على الكفر، والثاني: فاسق -وهو المؤمن العاصي- وهذا قالوا فيه: إنه شقي كالكافر سواء ليس هناك فرق بينه وبين الكافر.

والخوارج قالوا: الشقي نوع واحد وهو الكافر، والكافر عندهم الذي أتى بالكفر والذي أتى بالمعصية سواء بسواء ولا فرق.

والمؤسس للاعتزال هو واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، وقد كان عمرو بن عبيد زاهداً في الدنيا لكنه ابتلي بالكلام، ونفى صفات الله عز وجل، وكذلك واصل بن عطاء، وقد كانوا في حلقة الحسن البصري يدرسون، ولكن ابتلوا بهذه الآراء السيئة، وكان واصل بن عطاء الغزال فصيحاً جداً، وعنده قوة في الخطابة والأسلوب وتصريف الكلام، حتى أنه يخطب الخطبة الطويلة -ساعتين أو ثلاثاً- لا يتلعثم إلا أنه في لسانه لثغة في الراء، فمن فصاحته صار يتجنب الراء في الخطبة الطويلة، فيأتي بخطبة طويلة ليس فيها راء حتى لا تبين لثغته، ومن فصاحته أنه قيل له مرة: قل أمر الأمير بحفر البئر في قارعة الطريق، فقال: أوعز القائد بقلب القليب في الجادة، فأدى المعنى بدون راء، ولكنه ابتلي بهذا الاعتقاد الفاسد، وهو المؤسس لمذهب المعتزلة هو وعمرو بن عبيد وهو القول بأن المؤمن العاصي يخرج من دائرة الإيمان في الدنيا ويخلد في النار في الآخرة، نسأل الله السلامة والعافية.

<<  <  ج: ص:  >  >>