[الاحتجاج على طائفتي الوعيدية والمرجئة بنصوص الوعد والوعيد]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذه الأحاديث حجة على الطائفتين الوعيدية الذين يقولون: من دخلها من أهل التوحيد لم يخرج منها، وعلى المرجئة الواقفة الذين يقولون: لا ندري هل يدخل من أهل التوحيد النار أحد أولاً].
هذا الحديث حجة على الطائفتين: الوعيدية: وهم الخوارج والمعتزلة، ويسمون الوعيدية؟ لأنهم يعملون بنصوص الوعيد، ويغمضون أعينهم عن نصوص الوعد، فيعملون ببعض النصوص ويتركون بعض النصوص، مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:١٠].
فهذا من نصوص الوعيد، إذاً آكل مال اليتيم مخلد في النار.
وقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:٩٣]، إذاً القاتل مخلد في النار، وهكذا عملوا بالنصوص التي فيها الوعيد للعصاة كالحديث: (من اقتطع مال امرئ بيمينه أوجب الله له النار).
أما نصوص الوعد كالحديث: (من قال: لا إلا الله دخل الجنة) و (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً) فهذه يغمضون أعينهم عنها، ولا يعملون إلا بنصوص الوعيد، وهذه علامة أهل الزيغ، أنهم يأخذون ببعض النصوص ويتركون البعض الآخر.
فالخوارج والمعتزلة أخذوا نصوص الوعيد فخلدوا العصاة في النار وأخرجوهم من الإيمان في الدنيا، وأغمضوا أعينهم عن نصوص الوعد، وقابلتهم المرجئة فأخذوا بنصوص الوعد، فقالوا في مثل: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة)، إن المعاصي لا تضر، وإن زنى وإن سرق، أما الأثر: (من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) فقالوا فيه: الموحد لا يضره أي كبيرة يعملها.
أما نصوص الوعيد فقد أغمضوا أعينهم عنها؛ لأنهم من أهل الزيغ.
فجاء أهل السنة وأخذوا نصوص الوعيد وصفعوا بها وجوه المرجئة وأبطلوا بها مذهبهم، وقالوا: مذهبكم باطل بنصوص الوعيد، وأخذوا نصوص الوعد وصفعوا بها وجوه الخوارج والمعتزلة وأبطلوا بها مذهبهم وقالوا: مذهبكم باطل، فأبطلوا مذهب الخوارج والمعتزلة بأدلة المرجئة، وأبطلوا مذهب المرجئة بأدلة الخوارج والمعتزلة، وتعارضا فتساقطا، وبقي مذهب أهل السنة والجماعة.
قال أهل السنة: أنتم أدلتكم أيها الخوارج نأخذها ونستدل بها على أن المعاصي تضعف الإيمان وتنقص الإيمان، لكن لا يخرج بها من الإيمان بدليل نصوص الوعد، ونأخذ أدلتكم أيها المرجئة من نصوص الوعد ونستدل بها على أن العاصي معه أصل الإيمان، ولا يخرج من الإيمان، ولكن المعاصي تضره وتنقصه بدليل نصوص الوعيد، فأخذوا أدلة هؤلاء وأدلة هؤلاء، وعملوا بالأدلة من الجانبين، وأبطلوا مذهب المعتزلة بأدلة المرجئة، وأبطلوا مذهب المرجئة بأدلة الخوارج والمعتزلة، وبقي مذهب أهل السنة في الميدان هو الصحيح.
وهذه الأحاديث حجة على الطائفتين: الوعيدية الذين يقولون من دخلها من أهل التوحيد لم يخرج منها، وهذا وصف مشترك بين الخوارج والمعتزلة، وحجة على المرجئة الواقفة الذين يقولون: لا ندري هل يدخل من أهل التوحيد النار أحد أم لا؟ فهؤلاء متوقفون عندهم شك، ويسمون الواقفة، فإذا قيل لهم: هل أهل التوحيد يدخلون النار؟ قالوا: لا ندري، فهذه النصوص حجة عليهم، فالنصوص فيها أنهم يدخلون ويخرجون.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كما يقول ذلك طوائف من الشيعة والأشعرية، كالقاضي أبي بكر وغيره].
القاضي أبو بكر الباقلاني من أمكن الأشاعرة، وقد وافق المرجئة الواقفة طوائف من الشيعة والأشعرية وتوقفوا في دخول العصاة أهل التوحيد النار.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما ما يذكر عن غلاة المرجئة أنهم قالوا: لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد فلا نعرف قائلاً مشهوراً من المنسوبين إلى العلم يذكر عنه هذا القول].
يقولون: لن يدخل النار من أهل التوحيد أحد ولو فعل جميع الكبائر وجميع المعاصي، وهذا يقوله غلاة المرجئة كالجهمية، ولا يوجد أحد من العلماء المنتسبين للعلم يقول بهذا القول، إنما يقوله غلاة المرجئة وغلاة المرجئة هم الجهمية الذين يقولون لا يضر مع الإيمان طاعة كما لا ينفع مع الكفر معصية، فيقولون: إن المؤمن إذا عرف ربه بقلبه يكفيه، ولو فعل المنكرات وجميع الكبائر، حتى لو فعل المكفرات فلا يضره ما دام أنه يعرف ربه بقلبه، وهذا من أبطل الباطل.