[حكم قتل الشارب في الرابعة]
وقد أعيا الأئمة الكبار الجمع بين الحديثين، ولكن نسخ الوجوب لا يمنع الجواز، فيجوز أن يقال: يجوز قتله إذا رأى الإمام المصلحة.
أي: أن الأمر بقتله منسوخ لكن إذا رأى الإمام المصلحة في قتله من باب التعزير، وأنه لا يندفع الشر إلا بذلك، كما إذا كثر الناس وتجرءوا على شرب الخمر وأكثروا من شربه، فلا بأس أن يقتلهم الإمام في الرابعة تعزيراً لا وجوباً.
كما أن عمر رضي الله عنه لما تتابع الناس في الطلاق في الثلاث ألزمهم بطلاق الثلاث تعزيراً فصار يوقع الثلاث، وكان الطلاق الثلاث بكلمة واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وصدر من خلافة عمر طلقة واحدة، فلما تتابع الناس في الطلاق وأكثروا منه في زمن عمر رضي الله عنه قال: إن الناس استعجلوا شيئاً لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم ردعاً لهم حتى لا يتجرءوا، فصار من طلق بالثلاث يوقع عليه الثلاث.
فكذلك شارب الخمر يجلد ثم يجلد ثم يجلد، لكن إذا تتابع الناس ولم يرتدعوا فلا بأس أن يقتل الإمام في الرابعة تعزيراً وردعاً للناس.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيجوز أن يقال: يجوز قتله إذا رأى الإمام المصلحة في ذلك، فإن ما بين الأربعين إلى الثمانين ليس حداً مقدراً في أصح قولي العلماء كما هو مذهب الشافعي وأحمد في إحدي الروايتين، بل الزيادة على الأربعين إلى الثمانين يرجع إلى اجتهاد الإمام فيفعلها عند المصلحة كغيرها في أنواع التعزير].
شارب الخمر جاء في الحديث أنه يجلد أربعين، فكان شارب الخمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر يجلد أربعين جلدة، فلما تتابع الناس استشار عمر الصحابة، فقال عبد الرحمن بن عوف: أخف الحدود ثمانين، فجلده عمر ثمانين.
فالزيادة من أربعين إلى الثمانين اجتهاد، فكذلك للإمام أن يجتهد إذا تتابع الناس وأكثروا من شرب الخمر فيقتل شارب الخمر ردعاً وتعزيراً، كما أنه يزيد من الأربعين إلى الثمانين تعزيراً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذلك صفة الضرب فانه يجوز جلد الشارب بالجريد والنعال وأطراف الثياب].
وصفة الضرب كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن يضرب الشارب بالجريد والنعال وأطراف الثياب، جاء في الحديث: (أتي برجل شرب الخمر، قال: فمنا الضارب بيده ومنا الضارب بنعله، ومنا الضارب بثوبه، حتى عد أربعين).
فكما أنه للإمام أن يجتهد فيجلد من الأربعين إلى الثمانين، كذلك يجتهد في صفة الضرب فبدل أن يكون بالثياب والنعال يضرب بالجريد كما فعل الصحابة، وكذلك أيضاً للإمام قتله تعزيراً واجتهاداً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [بخلاف الزاني والقاذف].
الزاني يجلد مائة ولا اجتهاد فيه، والقاذف يجلد ثمانين بنص القرآن كما قال تعالى في الزاني: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:٢]، وفي القاذف: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:٤].
أما شارب الخمر فالزيادة على الأربعين اجتهاد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيجوز أن يقال: قتله في الرابعة من هذا الباب].
يجوز أن يقال إن قتل شارب الخمر في الرابعة من باب التعزير اجتهاداً، بخلاف الزاني والقاذف، فهذه جملة معترضة.