هنالك بسطت لهم أمر الحرب، وأنها مدعاة دمار الديار، ومَتْلَفَةَ البلاد والعباد فقالت:(إنَّ الْمُلُوك إذا دَخَلُوا قَرْيةً أْفسَدُوها وجَعَلُوا أعِزَّةَ أهْلِهَا أذِلَّةً وكَذلِكَ يَفْعَلُون) ثم كشفت لهم عن وجه الرأي فقالت: (وإني مُرْسِلةٌ إلَيْهِمْ بهدِيَّةٍ) كفيلة بأن تصرف ذوي المطامع وتجتذب بُغَاةَ الدنيا فإن صرفته عن قصده فهو ملك ولنا من بأسنا وقوّتنا ما يَثُل عرشه ويَفل غربه وإن ردَّها وصُرف عنها فعسى أن يكون نبياً يُبصرنا الحجة، ويهدينا سواء السبيل.
فلما جاءت رُسُلها سليمان بهديتها التي جمعت من كل شيء أسناه وأتمة قال:(أُتمدٌّونني بما فما آتاني اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أْنتمْ بِهَديِتكُمْ تَفْرَحُون).
حتى إذا استبانت بلقيس وضح الهدى من سليمان تَبدّلت بدين آبائها دينَ الله وكان ذلك سبيلا إلى طمس آية المجوسية بين أرجاء اليمن.
تلك آيات من الذكر الحكيم قامت بفضل المرأة، ورجاحة عقلها، وسماحة رأيها، وأن قوة الشوكة وعزة الملك لم تصرفاها عن ابتغاء الحق أيّاً كان سبيله، ومن أّي كان مفيضه.
ولئن صح ما روى الفخر الرازي: أن بلقيس هي التي مدّت سدّ مأرب وجعلته
طبقات ثلاثا بعضها فوق بعض لتكوننَّ تلك المرأة مهبط وحي العظمة ومشرق نور الحضارة في العالم كله. فأما ما بُنى قبل ذلك فجبال تعترض سَرَوَات الطرق، وترهق مناسم الأرواح، نُشرت على هاماتها ألوية الظلم ونُزفت على أقطارها دماء الضعفاء.
تلك هي بلقيس ربة القوم الذين رضوا الزمان ومدّوا سدّ العَرم وشادوا قصر غمدان.