كان على العرب بعد أن لحق رسول الله بربه أن يبتغوا الوسائل لنشر دينه وإذاعة دعوته، وكان عليهم حين لا تجد الحجة البالغة سبيلا إلى القلوب أن يجعلوا السيف كفيلا بنشرها في مشارق الأرض ومغاربها، وبقدر ما كانت الأمانة الملقاة على عواتقهم فادحة والغاية بعيدة كان جهدهم كذلك فادحاً وهمتهم بعيدة، فقد وثبوا وثبة رجفت لها قوائم الأرض، فلم يبقى سهل ولا جبل، ولم يبق قطر ولا مصر، ولم يبقى عرش ولا تاج إلا تبدل حالا بعد حال، وكذلك صاروا يضربون في مناكب الأرض فمن وادعهم ودخل في ذمتهم عاهدوه على الوفاء له والذود عنه، ومن حشد لهم ونهض لقتالهم وفرّقوا جمعه ومزقوا شمله ونكسوا وتولوا حكومته، وما كانت قوتهم التي أخضعت لهم الرقاب وذلك لهم الصعاب في وميض سيوفهم ولا عديد جنودهم ولا قوة سواعدهم ولا نفاذ آرائهم فما من أمة ممن ناصبوها الحرب إلا وهي أشد منهم قوة، وأكثر عدداً، وأسنى تدبيرا، وأنفذ تفكيراً، ولكنها كانت في قلوبهم التي ملأ الإيمان أقطارها فلم يدع فيها مطمعاً في أمل ولا مستمعاً بمتاع، وفي نفوسهم التي استمكنت العفة من صميمها فلم تفتنها المآرب ولم تلوثها الشهوات، وفي مشاعرهم التي لا تريع لآية من آيات الكتاب إلا ترقرقت في العيون عبرة جارية، وتأججت في الصدور نارا حامية. تلك كانت قوتهم التي أعزهم بها الإسلام فآمنهم من خوف، وجمعهم من شتات، وجعلهم خير أمة أخرجت