بذلك وأشبه استكمن الجواري من شهوات العرب، وبقي أن يملكن عليهم مجال أرواحهم، ويأخذن عليهم سبل مشاعرهم، ويحففن بهم من كل نواحيهم والعربي شاعر يهب الشعر قلبه وماله، طروب يهزه رزام الناقلة، ويبكيه نوح الحمام، وبلاد فارس بما حباها الله من حسن وإشراق، مشرق شمس الشعر، ومهبط وحي الغناء؛ وليس ينقص الفتاة الفارسية إلا أن تروي الشعر العربي حتى تكون شاعرة ساحرة، ومغنية مضنية، وذلك ما أقبل عليه الجواري ومؤدبوهنّ إِقبالا لا حدّ له.
وكان المقَيَنون يحتازون الجارية، فان وجدوا منها لباقة في اللفظ أو رخامه في الصوت دفعوا بها إلى المؤدين والمغنين فيروّونها الشعر ويلقنونها الغناء، فإن تم لها هذان نبه شأنها، وتنافس ذوو السلطان في ابتغائها والمغالاة بها، ولصاحبها من وراء ذلك ربح غير معدود، وحفظ غير محدود.
وكانوا قبل عهد بني العباس إلا يعلمون الغناء إلا الصفراء والسود، فلما ازدهر العهد العباسي وظهر إبراهيم الموصلي أخذ يختار الحسان ويعلمهن الغناء، فكانت داره أشبه ما تكون بمعهد موسيقى يتخرج فيه حسان المغنيات، فإذا تم ذلك لهن أخذ يبيعهن من الخليفة أو الوزير بما يكفل له الغنى والجاه والحظ العظيم.
وفيما فعله إبراهيم يقول أبو عيينة:
لا جزى الله الموصلي أبا إسحاق عنا ... خيراً ولا إحسانا
جاءنا مرسلا بوحي من الشيطان ... أغلى به علينا القيانا
من غناء كأنه سكرات الحب ... يصبي القلوب والآذانا
ولم يمضي غير قليل حتى ظهرت الفرس في ميدان الشعر العربي والغناء العربي بدافعن الشعراء والمغنين بالمناكب، وأخذن يفرغن على الشعر العربي حلة مذهبة