أما بعد فذلك الذي أسلفناه من فنون الجمال والتجمل عند الجواري لم يكن كل ما ملكن من مواهب، وما سلكن من مذاهب، وما ارتدين من حسن وإحسان، وما ابتدعن من فن وافتنان، وليس في الكتاب مستفاض لأصفهن لك طاهيات طعام، أو ساقيات شراب، أو سامرات ليل، أو ناسقات بيت. على أنهن في جملة ذلك كن صورة الحياة الناعمة، والحضارة الباسمة، والعيش الرغيد، فأنت إذا تناولتها من أشتات نواحيها لا تجد إلا بهجة باهرة، وفتنة ساحرة، وكان أول آثار ذلك غلبتهن
على قلوب الرجال، واستحواذهن على عقولهم، حتى لقد هتكوا فيهن ستر كل حشمة وخلعوا عذار كل وقار.
وكانت بيوت الخلفاء مسْتن القدوة ومسار الأمثال في كل ذلك، وأول من بذل نفسه، ورأيه، وذخره، وجلال منصبه لهؤلاء الجواري الخليفة الثالث محمد المهدي ابن أبي جعفر المنصور، وما كذلك كان السفاح والمنصور من قبله.
أما السفاح فكان عصر عزم ومضاء وهدم وبناء، فلم يكن له متسع للهو ولا سبيل إلى النساء.
وأما المنصور فقد ملك عليه بناء الملك وتوطين دعائمه وتوفير المال لتشييده سبيل خواطره ومشاعره. وكان بخيلا غيوراً مسوقاً إلى الجد من الأمر مخوفا مهيبا. وربما مال قليلا إلى التبسط للسماء فلم يكن يظهر لنديم، ولا رآه أحد يشرب غير الماء، وكان بينه وبين الستارة عشرون ذراعاً وبين الستارة والندماء مثلها، فإذا غناه المغني فأطربه حركت الستارة بعض الجواري فاطلع إليه الخادم صاحب الستارة فيقول قل له أحسنت بارك الله فيك، وربما أراد أن يصفق فيقوم عن مجلسه