دون الملك الأموي، فأراد عبد الرحمن ألا يبقى في الأندلس من ينازعه الملك ويجاذبه السلطان، فما زال ينتزع المتغلبين واحداً حتى دانت البلاد له وألقت أزمتها إليه، ثم اندفع بجيوشه إلى بلاد الفرنجة وما وراءها فدوّخ ملكها وأفزع ملوكها وأذل رجالها وسبى نساءها حتى تحامته القياصرة وتفادته الجبابرة، وأنشأ الجميع يهدونه أنفس ما عندهم من جوهر ومال حتى اعتلى ذروة المجد واقتعد ظهور الآمال.
ومنذ ذلك العهد أخذ سيل الجواري يتدفق على الأندلس وأخذن يسقين العرب من بني أمية من الكأس التي شرب منها بنو العباس، بل كان أصحابنا في الأندلس أسرع نشوة وأشد اندفاعاً من أشباههم في العراق كدأب المقلدين من الناس أجمعين.
هذا هو الناصر ومكانته من سناء الرأي ومضاء العزيمة ما علمت، تغلبه جاريته الزهراء على نفسه ورأْيه وهمته فيوجهها جميعاً إلى تذليل المستحيل لهذه الجارية وإن من تذليل المستحيل قيامه بابتناء مدينة الزهراء.
[الزهراء]
وإذا ذكرت الزهراء فاذكر ما يقول فيها صاحب نفح الطيب: أنه لما بنى الناصر قصر الزهراء المتناهي في الجلالة أطبق الناس على أنه لمُ يبنَ مثله في الإسلام
البتة، وما دخل إليه أحد من سائر البلاد النائية والنَّحل المختلفة من ملك وارد أو رسول وافد أو تاجر جاهد - وفي هذه الطبقات من الناس تكون المعرفة والفطنة - إلا وكلهم قطع أنه لم ير له شبيها، بل لم يسمع به، بل لم يتوهم كونَ مثله.
والحق أن القوة التي دفعت الناصر إلى بناء الزهراء لم تكن مما يدفع الناس إلى بناء قصورهم وعمائرهم ولا هي من جنون العظمة الذي دفع ملوك مصر الأقدمين