للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله. على أن تلك القوة الروعة كان يساورها خطر محيق من الفتنة بما حوت الممالك المفتوحة من عيش ناعم، وملك باسم وزهو ولهو، وعزف وقصف، وما وراء ذلك مما يفسد سرائر القوم، ويكدر ضمائرهم ويطفئ نور اليقين من قلوبهم، ويخمد نار الحمية في صدورهم.
وكان الإشفاق من وبال ذلك الداء أشد ما خامر قلب الرسول الأكرم صلى الله
عليه وسلم، وفي سبيله ألقى على السابقين الأولين من المسلمين كلمته الخالدة إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه. ومن أجله حرّم على رجال المسلمين أن يتحلوا بالذهب وقال للمتختم به: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده وحرّم عليهم لبس الحرير وقال: إنما يلبسه من لا خلاق له، وأشباه ذلك، مما كبح به الرسول جماح الفتن وأخمد به جمرة الشهوات كثيرة لا يناله التعداد.
وكان ذلك الإشفاق مما يهيج اللوعة والحسرات في صدور الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه. ومن قوله وهو مرتكس في مرض موته يخاطب المهاجرين من أصحاب رسول الله: والله لتتخذنّ نضائد الديباج وستور الحرير ولتألمن النوم على الصوف الأذربي كما يألم أحدكم على حسك السعدان والذي نفسي بيده لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه خير له من أن يخوض غمرات الدنيا.
وبينا كان الفاتحون يمعنون في أعماق فارس والروم وكانت مغانم العدوّ وسباياه تتوارد على الخليفة الأيد عمر بن الخطاب بينا كان ذلك كله وكان عمر في شغل بما عسى أن يصيب العرب من تلك الدنيا المقبلة والحياة المجلوة، وهو الذي يقول بعد أن وطئ المسلمون أعرف مدائن كسرى ليت بيني وبين فارس جبلا من نار لا نصل إليهم ولا يصلون إلينا.