وكانت رهبة الدين وهيبة الخلافة لا تزالان تعقدان على عيون العرب حجاباً لا ينفذ النظر منه إلى متاع الحياة، وكانوا لا يزالون من نشر دينهم على غاية لم يبلغوها وهي غاية تملك عليهم خواطر نفوسهم ومدارج أنفسهم فلا يشعرون إلا بها ولا يحيون إلا لها ولا يلمحون ما دونها فلم تأخذهم لذلك فتنة ولم تفتنهم شهوة، ولم تبهرهم زينة. ولعلك تعلم أن مما أثار الناس على الشهيد المظلوم
عثمان بن عفان وحملهم على اقتحام داره وسفك دمه ميله قليلا إلى ترفيه نفسه وساقوا من الأمثلة لذلك تعلية بيته وتزين جدرانه واتخاذ الوصائف لخدمته. وكانت فتنة عاتية قاتل فيها المسلمون بعضهم بعضاً وأذاقوا بعضهم بأس بعض ولم تنكشف حتى عصفت بعصر الخلافة وذهبت بجيل النبوة.
وجاءت الدولة الأموية، وفي عهدها أخذت رهبة الدين تنحسر عن قلوب العرب وقيلت أقوال لم تكن قبل تقال واجترحت أفعال لم تكن من قبل تفعل؛ وأي قول أشنع من أن يقوم شاعر مسلم بين سمع المسلمين وبصرهم فيقص عليهم حديث اعتدائه أعراض المسلمات ثم لا يجد من الناس دفعاً ولا استنكارا. بل أي جرم أبشع من أن يقف شاعر نصراني بين يدي الخليفة الأموي فيسخر من شريعة الإسلام بقوله:
ولست بصائم رمضان عمري ... ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بقائل كالعير يوما ... قبيل الصبح: حي على الفلاح
ولكني سأشربها صبوحاً ... وأسجد قبل منبلج الصباح
ثم لا ينثني من لدن الخليفة إلا مثوبا موفوراً.
وهل أتاك حديث أبنا النبي وأحبائه الذين عاهد الله المسلمين على مودتهم بقوله تعالت آيته (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) أرأيت كيف قتلهم رجال هذه الدولة على مدرجة الطريق طعنا بالرماح وحزّا بالسيوف وصبراً