في ذلك الحرج مركباً خشناً لا سواء فيه ولا صفاء، فاستوحشوا من الدنيا وانقطعوا عن لناس وتجافت جنوبهم عن المضاجع وتناءت قلوبهم من المطامع، وهذا الفريق من الناس هو الذي اتخذ أبناء الرسول صلى الله عليه وسلم غاية مرومة وسنة مأمومة، ثم ما لبثوا أن تجاوزوا بالنسك أبعد حدوده فحرموا على أنفسهم طيبات ما أحل الله فلبسوا الخشنِ الشائك وأكلوا اليابس القَفار وأنسوا
بالظلمة الحالكة واستوطئوا الصلب العسير واندفعوا في سبيل ذلك كما يندفع المهر الأرَنّ فاعتسفوا الطريق إلى غايته واقتحموا الصعاب إلى مداها.
وكان الزاهدات من النساء أشد اندفاعا في الزهد وانقطاعاً إلى العبادة واقتناعاً عن طيبات الحياة من زهاد الرجال، فلا تراهنّ إلا صائمات قائمات، باكيات والهات، وخليق باندفاع المتبرجات المتبذلات أن يقابله اندفاع المتنكسات المتبتلات، فإن حسب المرأة أن تشعر بالموجدة على شيء حتى تفر من كل ما يلابسه أو يحيط به، لذلك كان العراق أحفل بلاد الله بالخّيرات الصالحات اللواتي نهجن طريق الزهد عن فرط علم ورسوخ عقيدة لا عن حماقة وجهالة كما تجد في كثير ممن عرفن بالنسك والتصوّف من أشتات البلاد.
ورأس هؤلاء الناسكات رابعة بنت إسماعيل العدوية البصرية، وكانت مضرب المثل في تدله القلب واحتراق الكبد حباً لله وإيثار لرضاه، وكانت على تواصل صيامها وقيامها وتتابع زفراتها وتدفق عبراتها تستقل كل ذلك في جنب الله. قال يوماً شيخ الزهاد سفيان الثوري وهو عندها: وحزناه! فقالت: لا تكذب! بل قل: وا قلة حزناه، ولو كنت محزوناً لم يتهيأ لك أن تتنفس.
ومن حديث خادمتها عبدة بنت أبي شوال - وكانت أشبه الناس بها في نسكها وعبادتها -: كانت رابعة تصلي الليل كله فإذا طلع الفجر هجعت في