شديداً لم يكن في هذه الأمة مثله قط حتى كره أهل الشام وأهل العراق القتال وملوه من طول تبادلهم السيف. فقال عمرو بن العاص وهو يومئذ على القتال لمعاوية: أنت مطيعي فتأمر رجلاً بنشر المصاحف، ثم يقولون: يا أهل العراق ندعوكم إلى القرآن والى ما في فاتحته إلى خاتمته، فإنك إن تفعل ذلك يختلف أهل العراق ولا يزيد ذلك أمر أهل الشام إلا استجماعاً، فأطاعه معاوية ففعل، وأمر عمرو رجالاً من أهل الشام فقرىء المصحف ثم نادى يا أهل العراق ندعوكم إلى القرآن، فاختلف أهل العراق فقالت طائفة: أولسنا على كتاب الله وبيعتنا؟ وقال آخرون كرهوا القتال: أجبنا إلى كتاب الله، فلما رأى علي عليه السلام وهنهم وكراهتهم للقتال قارب معاوية فيما يدعوه إليه واختلف بينهم الرسل فقال علي عليه السلام: قد قبلنا كتاب الله فمن يحكم بكتاب الله بيننا وبينك، قال: تأخذ رجلاً منا نختاره ونأخذ منكم رجلاً
تختاره، فاختار معاوية عمرو بن العاص، واختار علي أبا موسى الأشعري. وجرت المهادنة بين علي ومعاوية على وضع الحرب بينهما ويكون لعلي العراق، ولمعاوية الشام، فلا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش ولا غارة ولا غزو، فأقام معاوية بالشام يجبيها وكان ذلك سنة ٤٠.
كانت حرب صفّين من أشأم الحروب على الأمة، وهي في أول شبابها، التقى فيها المسلم بالمسلم بالسلاح، واقتتلا قتالاً شديداً، وهلكت من الفريقين نفوس زكية، فيهم الصحابة والقراء والعلماء، ولو لم يشغل بال معاوية بمقتل عثمان ثم بمدافعة عليّ لكان تفرغ للقضاء على الدولة البيزنطية آخر الدهر. خصوصاً وقد كان من أكبر همه أن يغادي الروم القتال ويراوحهم منذ استقل بإمارة الشام. يغزوهم براً وبحراً ويصيب منهم وقلما يصيبون منه، وربما توفق معاوية وآله لولا هذه الغائلة الأهلية إلى استصفاء معظم أقطار الأرض ونشر الدين واللغة فيها، واضطرت حوادث عليّ معاوية أن يهادن صاحب الروم ويرضيه بمال عظيم ريثما يتفرغ له. وقال عمرو بن العاص لمعاوية: كما بدأت الفتنة اكتب إلى قيصر الروم تعلمه أنك ترد عليه جميع من في يديك من أسارى الروم وتسأله المواءمة والمصالحة تجده سريعاً إلى ذلك راضياً بالعفو منك.