أحصيتَ قرى هذه الأقاليم الثلاثة اليوم لا تجدها في حوران تزيد على أربعمائة قرية ومنها الخِرَب، وفي الغوطة على ثنتين وأربعين، وفي وادي التيم على ثلاثين إلى أربعين. وهكذا سائر الشام. فإن حلب كان فيها قبل العثمانيين ٣٢٠٠ قرية فأصبحت ٤٠٠ في القرن الحادي عشر، ومنها ما ظل خراباً إلى النصف الأخير من القرن الماضي لأن معظم عهد العثمانيين انقضى في مظالم ومغارم، وكان من جندها ولا سيما الإنكشارية في آخر عهدهم أدوات تخريب لم يشهد الناس أفظع منها، لذلك خربت حتى الضواحي والأرباض من المدن الحافلة أمثال حلب ودمشق وحماة وحمص وما شاكلها. وكانت رجل الإنكشاري بل الجندي التركي على الإطلاق حيث دبت يدب الدمار والبوار. ولذلك لا نكاد نرى عمراناً إلى على طول الطرق العامة الكبرى وما إليها من اليمين والشمال، ونشاهد المدينتين العظيمتين حلب ودمشق مثلاً ينقطع في الحال أو على ساعات قليلة عمرانها الذي كان وارف الظلال إلى القاصية وكان هذا بفعل البادية وفعل الجيوش المدمرة.
[عوامل الخراب:]
ولولا ذلك الظلم المتسلسل قروناً في أعقاب الفلاحين المساكين، وأسواط النقمة التي انهالت على رقابهم الجيل بعد الجيل، لما تيسر اليوم لأحد أن يملك المزرعة والمزرعتين بل ربما العشر والعشرين قرية، وبعض الأسر الحديثة تملك الخمسين والثمانين، والإنسان قد تكفيه المائة دونم أو جريب إذا أحسن تعهدها، فكيف له أن يعمر ألوفاً من الأفدنة، ويتسع وقته وماله لحمايتها وترقيتها؟
نقول حمايتها لأن كثيراً من القرى تنازل عنها مُلاكها لأرباب النفوذ ليحموهم من ظلم الحكام والمرابين، وأخذوا ثمنها بضع عباءات وغلايين، أو قفة من البن أو رطلاً من الدخان أو أقة من الحلوى المعروفة بالبقلاوة، ومن الأراضي ما توسل أهلها إلى أرباب المكانة أن يسجلوها في دائرة التمليك بأسمائهم لما شرعت الدولة العثمانية ١٨٨٢م بتسجيل الأملاك على أصحابها، وذلك فراراً من ظلم عمال تلك الحكومة ومن وضع الرسم المعتاد، ومنهم من تخلوا للأعيان عن أراضٍ عانوا مع آبائهم زراعتها زمناً طويلاً، تخلصاً من تسجيل نفوسهم