عنيت الأمم منذ القديم بالفنون الجميلة، وكان حظ كل أمة من هذا الشأن بحسب رقيها وحضارتها. كان الأفراد يجمعون الآثار ويتنافسون باقتنائها لا لغاية علمية بل للزينة والتفاخر. ودام هذا حالهم حتى سنة ١٧٦٤م لما ظهر متاب تاريخ الفن عند الأقدمين لمؤلفه وانكمان الألماني، وهو أول من وضع أسس هذا العلم الحديث.
إن علم الآثار القديمة فرع من فروع التاريخ، ومن أصعبها مراساً، إذ يحتاج صاحبه إلى قوة انتباه وذوق سليم. فإن هذا العلم لا يقتصر فيه فقط على جمع الآثار القديمة في المتاحف ووصفها، بل يتطلب حل رموزها وفهم كنهها، واستجواب تلك الشهود الصامتة، واستنتاج الحقائق منها.
ولقد أصبح النظر في أبحاث علماء الآثار وتحقيقاتهم محتماً على كل مؤرخ ومحقق، ويستنير بها كل لغوي ومفسر. وكم معضلة تاريخية ولغوية حسمت بفضل هذا العلم. وهاهي كلمة فرعون التي لا يجهل اليوم الأحداث معناها، ذهب المتقدمون من علماء اللغة في تفسيرها مذاهب حتى قام علماء الآثار فأظهروا وثائق تثبت أنها لقب كل من ملك مصر. وكم من حوادث جاءت في كتب السلف وفي الكتب المنزلة فذهب الناس في تأويلها، وشك بعضهم في صحتها، ولولا علم
الآثار الذي أماط عنها اللئام، وأظهرها للعيان ملموسة محسوسة، لقالوا: إنها أساطير الأولين. أليست جهود الذين اكتشفوا آثار آشور والكلدان ومصر وفارس ويونان وبعثوا ذكرها بعد أن كانت نسياً منسياً ألوفاً من السنين، شاهداً عدلاً على أخبار تلك المماليك.
لم يدون الأقدمون غير النزر اليسير الذي وصلهم من أخبار الشعوب القديمة، وأغفلوا ذكر أكثر الأمم البائدة التي ذهبت أخبارها بزوال أصحابها، ولو اكتفينا بهذه النصوص المشبوهة لما كنا أوفر حظاً ممن تقدمنا بمعرفة أخبار السلف، وبفضل هذا العلم نعرف اليوم أخبار أكثر هذه الأمم، كما نعرف حوادث الأمم في القرون الوسطى، وقد توصلوا لمعرفة ما كان عليه الإنسان