بقي أرباب المقاطعات في الدولة العثمانية كما كانوا في دولة المماليك. يضمنون الجراج مقابل أموال يتعهدون بها، ويعرقون اللحم والعظم بعد ذلك لحسابهم، مثل
أمير عرب الشام مدلج بن ظاهر بن آل جبار وكانت منازل قومه في سلمية وعانة والحديثة، والأمير فخر الدين المعني الأول حاكم الشوف، وجمال الدين الأرسلاني حاكم الغرب، وبني شهاب في وادي التيم، وبني الحرفوش في بعلبك، وبني ساعد أُمراء البر وحوران وعجلون وغيرهم في غيرها، وكلهم أشبه بأمراء صغار يخضعون الخضوع التام لحكام المدن، والمقتدر منهم الذي كان على صلات حسنة مع الوالي التركي القريب من عمله، ومن يجعل له وكيلاً يرجع إليه في أعماله في دار السلطنة، وإذا غضب الوالي على الأمير المتغلب يرسل عليه جيشاً من الانكشارية كما فعل والي دمشق سنة ٩٣٠ مع أمير الشوف، فيخرّب العسكر قراه ويستصفي أمواله ويأسر أهله ورجاله ويسبي نساءه، فعلوا ذلك مرات في لبنان والبقاع وبعلبك ووادي التيم وغيرها، وينشأ هذا الغضب من تأخرهم عن تأدية الجراج، أما المظالم التي تنزل بالناس فحدث ما شئت أن تحدث عنها.
كان من قواعد الدولة العثمانية إذا فتحت مصراً أن تولي أمورها الكبرى لولاتها وقضاتها والصغرى لأبناء البلد المفتوح، وتلقي حبلها على غاربها لا تهتم لتنظيمها اهتمامها لفتح أراض جديدة، وإذ كان الولاة يبتاعون مناصبهم على الأغلب بالمزاد في دار الملك، كان المزايدون في الأكثر من الساقطين في أخلاقهم، لا يتأخرون عن ارتكاب كل محرم ليسلبوا الرعية ما أمكن فيملئوا خزائنهم وخزائن من حملوهم على رقاب الأمة. وساعد على إيغال العمال في الفساد قلة المواصلات، وبعد دار السلطنة عن أكثر الولايات، فبين دمشق والأستانة مثلاً ١١٠٠ كيلومتراً و ٣٨٦ ساعة، وإن قدّر لأرباب الظلامات فوصلوا العاصمة رغم هذه المصاعب لبث شكواهم إلى السلطان، كان بعض أصحاب الشأن يحولون دون ذلك، فكانت الشام كله يستأثر بها والٍ أو واليان يحكمان فيها بحسب مزاجهما بدون مراقب إلا من ذمتهما، فإذا