على الجماعة والمدارس مدارسهم والدين دينهم. ومنذ عبث العابثون بالمدارس، وسرق السارقون عينها ومغلها، تراجعت دروس الدين وتراجعت معها دروس العلوم الأخرى ففشا الجهل المطبق في الأمة، وكادت تعود سيرتها الأولى من الجاهلية الجهلاء، وأصبح من وسموا بالعلم إذا سئلوا أفتوا بغير علم، وجوزوا ما حرمه الشرع وحرموا ما جوزه، ومن مساويهم أكل أموال الأقاف واستصفاء أعيانها، ومعدهم تهضم خصوصاً المساجد والمدارس.
أضاع الخلف ما أبقاه السلف معموراً زهراً من المدارس التي كانت في العصور الغابرة غاية ما وصل إليه العقل البشري ظرفاً ومظروفاً، وبها أثبت أجدادنا أنهم كانوا شيئاً مذكوراً في إتقان الهندسة والبناء، وأنهم على جانب من سلامة الذوق، وأنهم حراص على مجد أمتهم، وأن الأعمال العظيمة لم تقم بنفسها لو لم يفكر فيها عقول كبيرة، وما كانت تلك المدارس تعمر لو لم يدرس فيهلا نوابغ من رجال العلم والاداب، ولو لم تكن ذات قانون معقول. نعم لم نعرف سر هذه الصناعة التي مثلتها لنا هذه المدارس، ولعله يقوم في الجيل المقبل أبنائنا علماء بالآثار والبحث يكشفون سر أعمال الأجداد كما توفر علماء الآثار في أوربا مائة سنة حتى كشفوا لأممهم أسرار البيع العظمى التي قامت خلال القرون الوسطى، وعسى
أن يبرهن الباحثون منا انه لم يقم في الأرض شيء من العظمة إلا كان إلى جانبه عظماء يتعهدونه ويغذونه بعقولهم، ويفضون عليه من معين قرائحهم.
قلت مرة من محاضرة ألقيتها في الشهباء في ربيع سنة ١٣٤١هـ - ١٩٢٣م وقابلت فيها بين مدارس حلب ودمشق: من تأمل مدارس أرباب الخير من المسلمين في الشهباء والفيحاء، وقرأ ما كتب بتأمل، وزارها المرة بعد المرة على تغير معالمها، وتشويه طرأ على محاسنها، وفساد عرا أذواق الأبناء والأحفاد، إذا قيس إلى سلامة ذوق الأجداد، وجعل نسبة بين عدد ما عمر منها وما بقي في البلدتين الشقيقتين يؤكد معنا أن الفساد استحوذ عليها في دمشق أكثر من حلب، وأن من تجردوا من الوجدان فاستحلوا استصفاء تلك المدارس كانوا في الفيحاء اكثر من أمثالهم في الشهباء، ولذلك كان عدد الباقي في حلب اكثر وأجود من المدارس في دمشق.