هذا فقد روى مؤرخونا أن الأخبار لما وصلت سنة ٤٩٠هـ إلى الشام بظهور عسكر الفرنج من بحر القسطنطينية في عالم لا يحصى عدده كثرة، شرع الملك داود بن سليمان بن قتلمش، وكان أقرب إليهم داراً في الجمع والاحتشاد، واستدعى التركمان فوافاه منهم مع عسكر أخيه العدد الكثير وعادوا إليه، واستظهروا عليه، وكسروا عسكره فقتلوا منهم وأسروا، ونهبوا وسبوا، وانهزم التركمان واشترى ملك الروم من السبي خلقاً كثيراً وحملهم إلى القسطنطينية.
ولما اتصلت هذه الأنباء بأمراء الشام، قر رأي أصحاب إنطاكية وحلب ودمشق وغيرهم من صغار الأمراء على الاستصراخ والاستنجاد، وتحصين إنطاكية وإخراج النصارى منها، ولم تلبث عساكر الفرنج أن نزلت على حصن بغراس وأعادوا الكرة على أعمال إنطاكية فعصى من كان في الحصون والمعاقل المجاورة لها، وقتلوا من كان فيها وهرب من هرب منها، وفعل أهل حصن ارتاح مثل ذلك واستدعوا المدد من الفرنج. وكان نهض من عسكر الفرنج فريق يناهز الثلاثين ألفاً فعاثوا في الأطراف ووصلوا إلى حصن البارة وفتكوا بأهله، وكان عسكر دمشق وصل إلى ناحية شيزر لإنجاد ياغي سيان، فقتل الفرنج منهم جماعة، وعاد الفرنج إلى الروج بين حلب والمعرة، وتوجهوا إلى إنطاكية وجعلوا بينهم وبينها خندقاً لكثرة الغارات عليهم من عسكرها.
وكان الفرنج عند ظهورهم عاهدوا ملك الروم ووعدوه بأن يسلموا إليه أول بلد يفتحونه، ففتحوا نيقية فلم يسلموها إليه على الشروط المقررة، وافتتحوا في طريقهم بعض الثغور والدروب وفتحوا الرها وما إليها وجاءوا إنطاكية
فحاصروها تسعة أشهر حتى واطأهم قوم من الزرادين ومنهم أرمن على تسليم إنطاكية إليهم، وذلك لإساءة صدرت من صاحبها ياغي سيان إلى الأرمن فصادرهم وأرهقهم، ووجدوا الفرصة في برج من أبراج البلد مما يلي الجبل فباعوه من الفرنج وأطلعوهم إلى البلد منه. فانهزم ياغي سيان بعد أن ظهر من شجاعته وجودة رأيه وحزمه واحتياطه ما لم يشاهد من غيره، وخرج في خلق عظيم فلم يسلم منهم شخص، ولما حصل بالقرب