يعودوا كما كانوا في الثمانين السنة الأخيرة يأتمرون في الحال بأوامر الكنيسة البابوية، ويحسمون الناس ليسيروا بهم على العمياء إلى الأرض المقدسة. وبهذا العمل انحلت العقدة المهمة الأولى من حروب الصليبيين، وكان الخطب سهلاً بعد ذلك في عهد صلاح الدين وأخلافه فصدق في وصفه شاعره عبد المنعم الجلياني حيث قال من قصيدة:
وفيت لهم حتى أَحبوك ساطياً ... بهم ووفاءُ العهد قيد المخاصم
وخص صلاح الدين بالنصر إذ أتى ... بقلبٍ سليمٍ راحماً للمسالم
فخطوا بأرجاء الهياكل صورة ... لك اعتقدوها كاعتقاد الأقانم
يدين لها قسٌّ ويرقي بوصفها ... ويكتبه يشفى به في التمائم
مر الرحالة ابن جبير الأندلسي بالشام وصلاح الدين محاصر للكرك فتعجب من أن نيران الفتنة تشتعل بين الفئتين مسلمين وإفرنج وربما يلتقي الجمعان ويقع المصاف بينهم، وأرفاق المسلمين والنصارى تختلف بينهم دون اعتراض عليهم. واختلاف القوافل من مصر إلى دمشق على بلاد الفرنج غير منقطع، واختلاف المسلمين من دمشق إلى عكة كذلك، وتجار الصليبيين أيضاً لا يمنع أحد منهم ولا يعترض، وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم، وهي من الأمنة على غاية، وتجار النصارى أيضاً يؤدون في بلاد المسلمين على سلعهم والارتفاق بينهم والاعتدال في جميع الأحوال، وأهل الحرب مشتغلون بحربهم، والناس في عافية والدنيا لمن غلب. قال: وهذه سيرة أهل هذه البلاد في حربهم، وفي الفتنة الواقعة بين أمراء المسلمين وملوكهم كذلك ولا تعترض الرعايا والتجار، فالأمن لا يفارقهم في جميع الأحوال سلماً أو حرباً. وقال بعد أن ذكر استيلاء صلاح الدين على نابلس وإطلاق أيدي جيشه في جميع ما احتازته: وخرجنا نحن إلى بلاد الفرنج وسببهم يدخل بلاد المسلمين، وناهيك من هذا الاعتدال في السياسة.
وبعد أن قرر السلطان أمور القدس، وأمر بعمل الرُّبُط والمدارس الشافعية، رحل عنها ولم يبق معه مما أخذه من مال الفداء شيء وكان مائتي ألف دينار وعشرين ألفاً ففرقها على الأمراء والعلماء والفقراء، وأطلق كثيراً من الفقراء بدون فداء، وأدى أخو السلطان الملك العادل فدية عن ألفي صليبي، واقتدى به