وكان أراد أن يخفق علم التمدن الأوربي فوق مملكته فاستدعى إليه من فرنسا ضباطاً ومهندسين ورجالاً من أرباب الصناعات فجاءه العدد الكثير منهم. وخلفه مصطفى الرابع فألغى جميع خطط الإصلاح، ولكنه قتل كما قتل سلفه سليم ولم يطل عهده أكثر من أربعة عشر شهراً، وخلفه محمود الثاني ١٢٢٣ متشبعاً بروح إصلاح سليم الثالث، يريد إخراج الدولة من سباتها، معتقداً أنه لا سبيل إلى نجاتها إلا بإيجاد قوة لها من غير عسكر الإنكشارية الذين عراهم الانحلال منذ مائة سنة، وأصبحوا يقتلون الملوك
والوزراء ويخونون الدولة في ساحات الوغى، ويعبثون بشغبهم ومؤامرتهم بكيان الدولة، ذاهباً إلى أن من جملة الأسباب في بقاء الدولة أن يقلّد الفرنج في مناحيهم وعاداتهم. وهو الذي لبس الطربوش والألبسة الغربية. وأخذ يقيم الحفلات والمراقص وحفلات السماع على الطريقة الأوربية.
وفي سنة ١٢٢٣ مرّ ببلاد النصيريين طبيب إنكليزي فقتله الرعاع هناك، فصدرت الأوامر بالقبض على القتلة فأرسل سليمان باشا والي صيدا عسكراً بزعامة مصطفى بربر فاكتسح ديارهم وقتل سبعين رجلاً من كبارهم، وحشا رؤوسهم تبناً وبعث بها إلى الباشا، ثم امتنع النصيرية عن أداء المال فأرسل عليهم مصطفى بربر فنكل بهم وقتل خمسة وأربعين من رجالاتهم فأخلدوا إلى الطاعة. وكان من مقتل الطبيب وسيلة إلى الغارة على ضعاف الرعايا في زمن أصبح فيه شنّ الغارات صناعة يحترفها أناس مخصوصون في خدمة متغلب من المتغلبين.
وفي سنة ١٢٢٤ قوي الاختلاف بين والي دمشق وابن الشهابي وابن جنبلاط وكانا استوليا على أملاك عظيمة من الفلاحين في البقاع فلم يزرع أحد في تلك الرجاء. وكان الوهابيين قد استولوا خلال هذه المدة على الحجاز وأخذوا يجاذبون عمال الدولة حبل السلطة في الأرجاء التي بين الحجاز والشام. وذكر بعض المؤرخين أنهم ارتكبوا في بلاد حوران سنة ١٢٢٥ أفعالا بربرية من سبي النساء وقتل الأطفال ونهب الأموال وإحراق المنازل والغلال حتى قيل إنهم أتلفوا نحو ثلاثة آلاف ألف درهم وفي تاريخ نجد ١٢٢٥ أن سعوداً اجتاز بالقرى التي حول المزيريب وبصرى فنهبت الجموع ما وجدوا فيها من