دار الملك من السلطة فيمثلون أعظم مظهر من مظاهر الحكم الاستبدادي الفردي الجاهل. ولم يكن يخطر في بال الدولة أن رعاياها يقوون على الانتقام من أعظم عمالها، وهم الموصوفون في معظم أدوارهم بالطاعة للملوك والزعماء والرضى بما يقتضي به الأقدار، ولو صحت عزيمة المظلومين مرة أو مرات أن يهلكوا من يحاول إهلاكهم وخراب أرضهم وديارهم، لما ساءت الحال، وبلغت الشام ما بلغته من الاختلال، نريد أن نقول أن الرعايا طالت أيديهم فقتلوا والياً عظيماً من ولاة السلطنة. ونعني به سليم باشا الصدر السابق مبيد جيش الإنكشارية.
نصبت الدولة هذا الشيخ والياً على حلب ثم على دمشق سنة ١٢٤٧، وكان ظاهره شجاعاً مهيباً وباطنه جباناً وقد همّ أن يغتال بعض أعيان المدينة فبدأ بمدينة حماة، وقتل بعضهم فأيقن القوم أن هذا القاتل لا يصعب عليه أن يهلك أناساً في دمشق ليصفوا للدولة الحال بزعمه، فلما جاء عاصمة الشام أراد أن يضع على كل سكرة أي عقار في دمشق مصريتين كما هو الحال في الأستانة فثارت العامة بإشارة الأعيان وكانوا عند المصائب الشديدة تتحد على الأغلب كلمتهم، اتقاء شر عظيم يقعون فيه، وكثيراً ما كانوا يدخلون الأوهام على الولاة؛ لئلا يشتطوا في مطالبهم وتكون المغانم مناصفة بين الأعيان المتغلبة والحاكم المنصوب، فضرب الوالي العامة من أبراج القلعة بالقنابل، حتى إذا ضاق عليه الخناق جاء في بعض رجاله إلى دار قرب باب البريد فتأثره العامة وهدموا على رأسه سقف المخدع وأحرقوه.
وذكر بعضهم أن هذا الوالي تحصن برجاله في جامع مغلق أولاً والسَكمَان بالقلعة،
فبدأ الحريق من باب الهواء وأخذ يمتد، فلما رأى ذلك داخله الوهم لقلة رجاله وكثرة الدماشقة فتحصن بالقلعة، وأخذ يحرق دار الحكومة ليشغل الناس ويفوز بنفسه، وكان الحريق هائلاً خرب كثيراً، ثم اعتمدوا على حصار القلعة وأخذ الوالي يطلق المدافع على البلد، وأقام الناس متاريس حول القلعة ثم في الحارات وحاصروا العسكر المرابط في جامع المعلق، وقتل في هذه المناوشات كثير من الأهالي وجماعة الوالي، وطال المطال وتألب الناس على الوالي حتى إن والي عكا أخذ يقوي أهل دمشق عليه، ولما ضاق به الحصار