أن في أحد أطراف مملكته عالماً ينفع الناس بعلمه، فيحتال عليه ليأتي به إلى الأستانة ليدفنه حياً ويجعله إلى الخمول بعد الشهرة، ويخرجه قسراً من عالم النباهة والظهور، فإن لم يستطع ذلك فلا أيسر من التقول عليه للحط من كرامته، ويلذه جداً أن يشهد الشقاق مستحكماً بين حاشيته، ويلقى بينهم العداوة والبغضاء ولذلك
كان بعضهم عيوناً على بعض، ينال الواحد من رفيقه في غيبته وحضرته، حتى يتقربوا من قلب سلطانهم الذي يحب الملق، ويهش للدهان والتزلف. عادة له منذ كان فتىً، فقد ذكر مربيه المستشرق فمبري المجري أنه كان وهو فتىً لم يبلغ الحلم يلقي الشقاق بين أفراد الأسرة المالكة في القصر، وينقل الكلام من أناس إلى آخرين من أهل بيته، ويتجسس عليهم ويكشف سترهم.
أما إسراف السلطان عبد الحميد فإنه كان أقلّ من إسراف عبد العزيز بقليل، ولكن طغمة الجواسيس كانت مع نفقات قصره في الربع الأخير من دوره تستنزف جزءاً مهما من واردات السلطنة التي عرف كيف يستغلها، وكيف يصرفها في شهواته على طريقة مستورة، لم يطلع عليها إلا الخواص من رجاله. فقد ذكر الثقات أن آل عثمان لما أجلتهم جمهورية تركيا من بلادهم في صيف ١٣٤٢ بأجمعهم كان مع بعض سراري السلطان عبد الحميد عقود من الماس والجوهر عرضوها في مصر للبيع فعجز الأغنياء عن أداء قيمها ثم جعلتها بعض المصارف عندها رهناً عل مال أسلفته، فكم كان يا ترى من أمثال هذه الحلي المدهشة عند نساء آل عثمان، والأمة تهلك وعمالها لا يقبضون رواتبهم. وكلما عقدت قرضاً فكرت في آخر بحيث كانت الدولة تعيش بالقروض في آخر أيامها. وأصبح عبد الحميد في عهده الأخير يملك ألوفاً من المزارع والقرى، ويحمل جانباً من أمواله يضعها في المصارف الأجنبية، يعدها لطارئ يطرأ عليه، فلما سقط لم تنفعه، واستولى عليها الاتحاديون كما استولوا على خزائن قصره يلديز ومجوهراته وأعلاقه وجواريه، ونقضوا كل ما أبرمه، وفصموا عرى ما أحكمه.