المثل بالطاعة والشجاعة، أن يبدأ بالهرب، منذ بدت أمارات الفشل والبؤس، كانوا يهربون زرافات في الجبال إلى آسيا الصغرى وهم لا يعرفون الطريق وأهل القرى يطعمونهم ويلبسونهم ويهدونهم السبل. على أن الثبات أمام الجيش البريطاني لم يعد فيه أدنى فائدة ما دام حلفاؤهم البلغار قد طلبوا الصلح، وأمارات الانهزام بدت بجميع أعراضها في الساحة الغربية في أوربا.
وقصارى القول أن هذه الحرب كانت على الشام من أشأم الحروب لأنها حاربت وهي تحب السلم، فكان حربها تبعاً للدولة، وفقدت أبناءها وأموالها وخرب عمرانها. فقد منها نحو عشر سكانها في المعارك والجوع والأمراض أي نحو ثلاثمائة ألف رجل على أقل تعديل وخسرت من حيوانها وشجرها وذخائرها وبيوتها وجسورها ما يساوي الملايين من الدنانير، ويصعب تعويضه إلا في السنين الطويلة، هذا ما عدا من قتل من السوريين في الحرب مع الحلفاء فقد تطوع من الشاميين من غير المسلمين مع الحلفاء أكثر من عشرين ألفاً منهم خمسة عشر ألفاً كانوا في الجيش الأميركاني.
قبض الاتحاديون على زمام السلطنة العثمانية من سنة ١٣٢٦ ١٩٠٨ إلى سنة ١٣٣٦ ١٩١٨ ولم تتخللها إلا أشهر معدودة خرج الحكم فيها عن يدهم إلى الأحزاب الأخرى، وكان من عملهم الأول إعطاء الحرية لأمة لم تشترك في طلبها بل تولدت من فكرة بعض الأحرار والضباط، ثم قضوا على تلك السلطنة العظيمة، وجنوا جنوناً عظيماً بسياسة تتريك العناصر، حتى خرجوا عن طور العقل، ولم يحبوا أن يسمعوا بالعرب والعربية وحقوق العرب، فضلاً عن مراعاتهم وهم نصف سكان المملكة، وفي أرضهم أشرف معاهدها التي كان
سلاطين العثمانيين يبسطون بواسطتها نفوذهم المعنوي على العالم الإسلامي. قامر أنور وطلعت وجمال بالمملكة العثمانية كأنها سلعة في السوق فخسروا رأس المال، وكانوا يعللون آمالهم أن يضيفوا إليه أضعافاً مضاعفة، وبشقوطهم دب الفشل في الدولة العثمانية نفسها، وكيف لا يدب وقد خرجت رازحة بديونها فلقدة أكثر من نصف مملكتها.