فالمدنية التي عمل فيها هذا العدد الكثير من المؤازرين المختلفين ليست إذاً عربية صرفة، بل هي بحسب النموذجات التي تشبعت بروحها والمحيط الذي كبرت فيه: يونانية وفارسية وشامية ومصرية وإسبانية وهندية، ولكن إذا وجب أن يذكر لكل واحد قسطه من العمل لا يسع المنصف إلا أن يقول بأن قسط العرب منه كان أعظم من غيرهم فلم يكونوا واسطة فقط لنقل هذه المدنية ينقلون إلى الشعوب الجاهلة في إفريقيا وإسبانية وأوربا اللاتينية معارف الشرق الأدنى والأقصى وعلومه واختراعاته، بل أحسنوا استخدام المواد المبعثرة التي كانوا يلتقطونها من كل مكان، فمن مجموع هذه المواد المختلفة التي صُبّت فتمازجت تمازجاً متجانساً أبدعوا مدنية حية مطبوعة بطابع قرائحهم وعقولهم. وبفضلهم تيسر للحضارة الإسلامية في القرون الوسطى التي عاونت فيها أيد أخرى أن تكون ذات وحدة موصوفة، فالتقليد فيها محسوس ولكنه تقليد غير أعمى، وسلطة الأساتذة الأقدمين لا تحول دون الأبحاث العلمية والاختراعات الحديثة كما أن مشهد البدائع القديمة ودرسها لا يحول دون انتشار التفنن ولطافة الإبداع في الاختراع. وفي الشرق نشأت هذه المدنية وكانت دمشق إحدى مراكزها ومنبعث أنوارها ١هـ.
وبعد فإن خالد بن يزيد أول من جمعت له الكتب وجعلها في خزانة في الإسلام، وفي دمشق على الأرجح أُنشئت أول دار للكتب في العالم العربي، ودمشق أول عاصمة أُنشئت فيها دار ترجمة فأولى أبو هاشم بعمله هذه الأمة وهذه العاصمة شرفاً لا يبلى على الأيام. وإن الشام ليفخر بأن قامت فيه أول دولة عربية ممدنة،
وتمت فيه كثير من مشخصات الأمة العربية، ومن أولها التدوين والترجمة، فالشام أول سوق نفقت فيها بضاعة العلم والأدب فباعتها من غيرها وهذا يعد من مفاخرها التالدة. وخالد بن يزيد أول من عُني بعلوم الفلسفة ولم يتفرد بذلك المنصور العباسي خلافاً لما قاله كاتب جلبي من أن علوم الأوائل كانت مهجورة في عصر الأموية. قال الأصفهاني كان خالد ابن يزيد ينزل حلب وتوفي سنة ٨٥هـ.
وبذا رأينا أن التدوين حدث في القرن الأول في العلوم الدنيوية ويرى نالينو أنه ربما كان أول كتاب ترجم من اليونانية إلى العربية كتاب أحكام