للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الناس منها، إذ توهموها بما تمثل لهم من حال بعض من أقدموا عليها آلة للتكسب والتدجيل لا أداة للوعظ والإرشاد والتعليم.

ما رأينا صناعة من الصناعات استسهل الناس أمرها كالصحافة، فلم يعهد معلم في النجارة أو الحدادة أو البناء أو الهندسة يحترف هذه الحرف بدون سابق ممارسة ويتصدر للاعتياش منها وهو لا يعرف من أسرارها سراً، ولكن فن الصحافة في هذه الديار الذي يتوقف النجاح فيه على أسباب كثيرة أهمها العلم والتجربة والمال، قد رأينا أُناساً من الأغمار يدّعونه بدون خشية وأكثرهم لا يعرفون قراءة الجرائد والمجلات دع تأليفها وإصدارها.

كان جمهور الناس إلى عهد قريب يشارك الأطباء في طبهم، فترى الكبير والصغير إذا عرض لهما مريض من خاصتهما ومعارفهما لا يتوقفان في وصف علاج يشفيه، مدعين أن ذلك من مجرباتهما أو مجربات أصحابهما، ولما كثر الأطباء واستنارت الأمة بعض الشيء خفت هذه العادة في التعدي على الأطباء في طبهم إلا عند الطبقة الجاهلة. أما الصحافة فيدخل فيها بالفعل أُناس ليسوا منها وليست منهم، ويصفون للأمة أدوية تقيها الأسواء والأرزاء، ويعترضون على العالمين والحاكمين والسلاطين بلا خشية ولا حياء، كأن طب الأرواح ليس أصعب من طب الأشباح، أو كأن الصحافة من العلوم اللدنية لا الكسبية، يتعلمها المرء بالذوق وتوحي إليه إيحاءً.

من أجل هذا احتقرت الأمة الصحافة لما رأت من ضعف بعض أدعيائها في أخلاقهم ومعارفهم وقد شانوا اسمها بجمالها، تذرعاً إلى مطمع ينالونه، وصيت

بالباطل يحصلونه، ومقام عالٍ ينزلونه. نعم لم نشهد العطار بيطاراً، ولا الإسكاف نجاراً، ولا الحطاب رساماً، ولا الفحام نظاماً، ولا الجوهري حجاماً. ولكن شهدنا الفلاح صحافياً، والمتشدق مؤلفاً، والثرثار محامياً، والمكثار خطيباً. كما نشهد الأغبياء قد يحاولون مجاراةالأذكياء، والفقراء يقلدون الأغنياء.

بيد أن سنن الفطرة التي لا تغالب، ونظام هذا الكون البديع الذي قلما اختل، يعاقبان المعتدي على ما لا يعلم بما جنته يداه، كما قيل في الأمثال الإفرنجية كل خطاء يحمل عقوبته فيه. وندر جداً في الناجحين من تيسر لهم الوصول إلى ما وصلوا إليه إلا باتخاذ الذرائع المنجحة، ونسج حلل مجدهم بأيديهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>