لا جرم أن التصوير في هذه الديار كان ضعيفاً بعض الشيء لأن مسألته كان فيها نظر عند بعض الفقهاء الذين جمدوا على ما فهموه من الشريعة، والتصوير عارض على الملة غير مغروس في فطرتها، ولكن المسلمين تطوروا بطور الأمصار التي نزلوها. ولم يتوقف ملوكهم وأمراؤهم على فتاوى الفقهاء لإقامة المعالم واقتباس الحضارة، فقد ذكر ابن بطريق أن بطريق الروم في قنسرين طلب إلى أبي عبيدة ابن الجراح الموادعة على نفسه سنةً حتى يلحق الناس بهرقل الملك، ومن أقام فيها فهو في ذمة وصلح، فأجابه أبو عبيدة إلى ذلك، فسأله البطريق وضع عمود بين الروم والمسلمين، وصوّر الروم في ذلك العمود صورة هرقل جالساً في ملكه فرضي أبو عبيدة، ومرّ بالصورة أحد العرب، ووضع زج رمحه في عين تلك الصورة ففقأ عين التمثال عن غير قصد، فأقبل البطريق وقال لأبي عبيدة: غدرتمونا يا معشر المسلمين، ونقضتم الصلح، وقطعتم الهدنة فقال أبو عبيدة: فمن نقضه؟ فقال البطريق: الذي فقأ عين ملكنا. فقال أبو عبيدة: فما تريدون؟ فقال: لا نرضى حتى نفقأ عين ملككم. فقال أبو عبيدة: صوروا بدل
صورتكم هذه صورتي ثم اصنعوا بي ما أحببتم وما بدا لكم، فقال: لا نرضى إلا بصورة ملككم الأكبر فأجابهم أبو عبيدة إلى ذلك فصورت الروم تمثال عمر بن الخطاب في عمود، وأقبل رجل منهم ففقأ عين الصورة برمحه فقال البطريق: قد أنصفتمونا.
وذكر المقريزي أن خماريويه بن أحمد بن طولون أمير مصر والشام المتوفى سنة ٢٨٢هـ عمل في داره في القاهرة مجلساً برواقه سماه بيت الذهب، طلى حيطانه كلها بالذهب المجال باللازورد، المعمول في أحسن نقش وأظرف تفصيل، وجعل فيه على مقدار قامة ونصف صوراُ في حيطانه بارزة من خشب معمولة على صورته وصورة حظاياه، والمغنيات اللاتي يغنينه بأحسن تصوير وأبهج تزويق، وجعل على رؤوسهن الأكاليل من الذهب الخالص الإبريز الرزين والكراذن المرصعة بأصناف الجواهر، وفي آذانها الأخراص الثقال الوزن، المحكمة الصنعة، وهي مسمّرة في الحيطان ولُونت أجسامها بأصناف أشباه الثياب من الأصباغ العجيبة. فكان هذا البيت من أعجب مباني الدنيا.