عامرة لعهد واضعها، ولا يزال القسم الأعظم منها بحاله لم يصب بأذى الأيام. وآثار الفسيفساء كثيرة مبعثرة في دور مادبا لم تزل على بريقها، وفي دار سليم الصناع في مادبا بركة ماء معمولة بالفسيفساء الملونة أيضاً تخال ما فيها ماء حقيقياً وعلى جوانبها الثلاثة الباقية رسوم بالفسيفساء تمثل الحيوانات والطيور البرية والداجنة، تسرح في جنينة زاهرة والطيور المائية واقفة في وسط الماء على آنية تشبه الزهرية، وفي كل زاوية من زواياها صورة إنسان تخالف الأخرى. وفي
هذه البليدة عدة قاعات فرشت أرضها بالفسيفساء يطلق الماء عليها لتغسل كما يُغسل بلاط القاعات وأفنية الدور.
قال في مسالك الأمصار: والفسيفساء مصنوع من زجاج يذهب ثم يطبق عليه زجاج رقيق ومن هذا النوع المسحور المسجور وأما الملون فمعجون وقد عمل منه في هذا الزمان ٧٤٠ - ٧٥٠ شيء كثير برسم الجامع الأموي وحُصل منه عدة صناديق وفسدت في الحريق الواقع سنة أربعين وسبعمائة وعمل منه قِبَل للجامع التنكزي ما على جهة المحراب، غير أنه لا يجيء تماماً مثل المعمول القديم في صفاء اللون وبهجة المنظر، والفرق بين الجديد والقديم أن القديم قطعه متناسقة على مقدار واحد والجديد قطعه مختلفة وبهذا يعرف الجديد والقديم اه.
ووصف ابن فضل الله هذا يمكن أن يستنتج منه أن الفسيفساء كانت تعمل في الشام، وأن هذه الصناعة اللطيفة وإن اختصت بها القسطنطينية قد نقلت إلى الشام وجود عملها. وكان الوليد بن عبد الملك يحمل الفسيفساء على البريد من القسطنطينية إلى دمشق حتى صفح بها حيطان المسجد الجامع ومكة والمدينة. وكانت الفسيفساء في الجامع الأموي قبل حريقه الأول في القرن الرابع ملونة مذهبة تحوي صور أشجار وأمصار وكتابات، على غاية الحسن والدقة ولطافة الصنعة، وقلّ شجرة أو بلد مذكور إلا وقد مثل على تلك الحيطان قاله المقدسي وقال غيره: إنه مثلث في صور الجامع صفات البلاد والقرى وما فيهما من العجائب وأن الكعبة المشرفة صوّرت فوق المحراب كما قال فيه بعض المحدثين:
إذا تفكرت في الفصوص وما ... فيها تيقنت حذق واضعها
أشجارها لا تزال مثمرة ... لا ترهب الريح في مدافعها