من أئمة هذا الفن في معرفة الصحيح والمعلل فإنهم لا يختلفون في أن علي بن المديني كان أعلم أقرانه بعلل الحديث.
وعنه أخذ البخاري ذلك حتى كان يقول ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني ومع ذلك فكان علي بن المديني إذا بلغه ذلك عن البخاري يقول دعوا قوله، فإنه ما رأى مثل نفسه، وكان محمد بن يحيى الذهلي أعلم أهل عصره بعلل حديث الزهري، وقد استفاد منه ذلك الشيخان جميعا، وروى الفربري عن البخاري قال ما أدخلت في الصحيح حديثا إلا بعد أن استخرت الله تعالى وتيقنت صحته، وقال مكي بن عبد الله سمعت مسلم بن الحجاج يقول عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي فكل ما أشار أن له علة تركته، فإذا عرف وتقرر أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له أو له علة، إلا أنها غير مؤثرة عندهما فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليهما يكون قوله معارضا لتصحيحهما ولا ريب في تقديمهما في ذلك على غيرهما فيندفع الاعتراض من حيث الجملة، وأما من حيث التفصيل فالأحاديث التي انتقدت عليهما تنقسم أقساما (القسم الأول منها) ما تختلف الرواة فيه بالزيادة والنقص من رجال الإسناد فإن أخرج صاحب الصحيح الطريق المزيدة وعلله الناقد بالطريق الناقصة فهو تعليل مردود كما صرح به الدارقطني فيما سيحكيه عنه في الحديث الخامس والأربعين؛ لأن الراوي إن كان سمعه فالزيادة لا تضر؛ لأنه قد يكون سمعه بواسطة عن شيخه، ثم لقيه فسمعه منه وإن كان لم يسمعه في الطريق الناقصة فهو منقطع والمنقطع من قسم الضعيف والضعيف لا يعل الصحيح، وستأتي أمثله ذلك في الحديث الثاني والثامن وغيرهما، وإن أخرج صاحب الصحيح الطريق الناقصة وعلله الناقد بالطريق المزيدة تضمن اعتراضه دعوى انقطاع فيما صححه المصنف فينظر إن كان ذلك الراوي صحابيا أو ثقة غير مدلس قد أدرك من روى عنه إدراكا بينا أو صرح بالسماع إن كان مدلسا من طريق أخرى فإن وجد ذلك اندفع الاعتراض بذلك وإن لم يوجد، وكان الانقطاع فيه ظاهرا فمحصل الجواب عن صاحب الصحيح أنه إنما أخرج مثل ذلك في باب ما له متابع وعاضد أو ما حفته قرينة في الجملة تقويه ويكون التصحيح وقع من حيث المجموع كما سنوضح ذلك في الكلام على الحديث الرابع والعشرين من هذه الأحاديث وغيره وربما علل بعض النقاد أحاديث ادعى فيها الانقطاع لكونها غير مسموعة كما في الأحاديث
المروية بالمكاتبة والإجازة، وهذا لا يلزم منه الانقطاع عند من يسوغ الرواية بالإجازة، بل في تخريج صاحب الصحيح لمثل ذلك دليل على صحة الرواية بالإجازة عنده، وقد أشرنا إلى ذلك في الحديث السادس والثلاثين وغيره (القسم الثاني منها) ما تختلف الرواة فيه بتغيير رجال بعض الإسناد فالجواب عنه إن أمكن الجمع بأن يكون الحديث.
عند ذلك الراوي على الوجهين جميعا فأخرجهما المصنف، ولم يقتصر على أحدهما حيث يكون المختلفون في ذلك متعادلين في الحفظ والعدد كما في الحديث الثامن والأربعين وغيره وإن امتنع بأن يكون المختلفون غير متعادلين، بل متقاربين في الحفظ والعدد فيخرج المصنف الطريق الراجحة ويعرض عن الطريق المرجوحة أو يشير إليها كما في الحديث السابع عشر فالتعليل بجميع ذلك من أجل مجرد الاختلاف غير قادح، إذ لا يلزم من مجرد الاختلاف اضطراب يوجب الضعف فينبغي الإعراض أيضا عما هذا سبيله، والله أعلم (القسم الثالث منها) ما تفرد بعض الرواة بزيادة فيه دون من هو أكثر عددا أو أضبط ممن لم يذكرها، فهذا لا يؤثر التعليل به إلا إن كانت الزيادة منافية بحيث يتعذر الجمع، أما إن كانت الزيادة لا منافاة فيها بحيث تكون كالحديث المستقل فلا، اللهم إلا إن وضح بالدلائل القوية أن تلك الزيادة مدرجة في المتن من كلام بعض رواته فما كان من هذا القسم فهو مؤثر كما في الحديث الرابع والثلاثين (القسم الرابع منها) ما تفرد به بعض الرواة ممن