[الفصل الرابع في بيان السبب في إيراده للأحاديث المعلقة: مرفوعة وموقوفة، وشرح أحكام ذلك]
والمراد بالتعليق: ما حذف من مبتدأ إسناده واحد فأكثر ولو إلى آخر الإسناد، وتارة يجزم به كـ قال، وتارة لا يجزم به كـ يذكر، فأما المعلق من المرفوعات فعلى قسمين؛ أحدهما: ما يوجد في موضع آخر من كتابه هذا موصولا، وثانيهما: ما لا يوجد فيه إلا معلقا. فالأول قد بينا السبب فيه في الفصل الذي قبل هذا، وأنه يورده معلقا حيث يضيق مخرج الحديث إذ من قاعدته أنه لا يكرر إلا لفائدة، فمتى ضاق المخرج واشتمل المتن على أحكام فاحتاج إلى تكريره فإنه يتصرف في الإسناد بالاختصار، خشية التطويل.
والثاني - وهو ما لا يوجد فيه إلا معلقا - فإنه على صورتين؛ إما أن يورده بصيغة الجزم، وإما أن يورده بصيغة التمريض، فالصيغة الأولى يستفاد منها الصحة إلى من علق عنه لكن يبقى النظر فيمن أبرز من رجال ذلك الحديث، فمنه ما يلتحق بشرطه ومنه ما لا يلتحق، أما ما يلتحق فالسبب في كونه لم يوصل إسناده إما لكونه أخرج ما يقوم مقامه فاستغنى عن إيراد هذا مستوفى السياق ولم يهمله بل أورده بصيغة التعليق طلبا للاختصار، وإما لكونه لم يحصل عنده مسموعا أو سمعه وشك في سماعه له من شيخه أو سمعه من شيخه مذاكرة، فما رأى أنه يسوقه مساق الأصل، وغالب هذا فيما أورده عن مشايخه، فمن ذلك أنه قال في كتاب الوكالة: قال عثمان بن الهيثم: حدثنا عوف، حدثنا محمد بن سيرين، عن أبي هريرة ﵁، قال: وكلني رسول الله ﷺ بزكاة رمضان، الحديث بطوله، وأورده في مواضع أخرى منها في فضائل القرآن وفي ذكر إبليس، ولم يقل في موضع منها: حدثنا عثمان، فالظاهر أنه لم يسمعه منه، وقد استعمل المصنف هذه الصيغة فيما لم يسمعه من مشايخه في عدة أحاديث فيوردها عنهم بصيغة قال فلان، ثم يوردها في موضع آخر بواسطة بينه وبينهم، وسيأتي لذلك أمثلة كثيرة في مواضعها، فقال في التاريخ: قال إبراهيم بن موسى: حدثنا هشام بن يوسف، فذكر حديثا، ثم قال: حدثوني بهذا عن إبراهيم، ولكن ليس ذلك مطردا في كل ما أورده بهذه الصيغة، لكن مع هذا الاحتمال لا يحمل حمل جميع ما أورده بهذه الصيغة على أنه سمع ذلك من شيوخه، ولا يلزم من ذلك أن يكون مدلسا عنهم؛ فقد صرح الخطيب وغيره بأن لفظ قال لا يحمل على السماع إلا ممن عرف من عادته أنه لا يطلق ذلك إلا فيما سمع، فاقتضى ذلك أن من لم يعرف ذلك من عادته كان الأمر فيه على الاحتمال والله تعالى أعلم.
وأما ما لا يلتحق بشرطه فقد يكون صحيحا على شرط غيره، وقد يكون حسنا صالحا للحجة، وقد يكون ضعيفا لا من جهة قدح في رجاله بل من جهة انقطاع يسير في إسناده، قال الإسماعيلي: قد يصنع البخاري ذلك إما لأنه سمعه من ذلك الشيخ بواسطة من يثق به عنه، وهو معروف مشهور عن ذلك الشيخ، أو لأنه سمعه ممن ليس من شرط الكتاب، فنبه على ذلك الحديث بتسمية من حدث به لا على جهة التحديث به عنه، قلت: والسبب فيه أنه أراد أن لا يسوقه مساق الأصل، فمثال ما هو صحيح على شرط غيره قوله في الطهارة: وقالت عائشة: كان النبي ﷺ يذكر الله على كل أحيانه، وهو حديث صحيح على شرط مسلم،