هذا وصنيع مسلم يقتضي أن الإرسال على أي الوجهين كان إنما يكون تدليساً إذا كان على وجه الإيهام، ويوافقه ما في (الكفاية) للخطيب ص ٣٥٧.
وذكر مسلم فيها إرسال بالصيغة المحتملة عمن قد سمعوا منه ولم تعد تدليساً ولا عدوا مدلسين، ومحمل ذلك أن الظن بمن وقعت منهم أنهم لم يقصدوا الإيهام، وأنهم اعتمدوا على قرائن خاصة قائمة عند إطلاقهم تلك الراوية تدفع ظهور الصيغة في السماع وقد كنت بسطت ذلك ثم رأيت هذا المقام يضيق عنه. ولا يخالف ذلك ما ذكروه عن الشافعي أن التدليس يثبت بمرة، لأنا نقول: هذا مسلم ولكن محله حيث تكون تلك المرة تدليساً بأن تكون بقصد الإيهام والأمثلة التي ذكرها مسلم لم تكن كذلك بدليل إجماعهم على أن أولئك الذين وقعت منهم تلك الأمثلة ليسوا مدلسين.
وزعم النووي في (شرح صحيح مسلم) أنه لا يحكم على مسلم بأنه عمل في (صحيحه) بقوله المذكور، وهذا سهو من النووي، فقد ذكر مسلم في ذلك الكلام أحاديث كثيرة زعم أنه لم يصرح فيها بالسماع ولا علم لقاء، وأنها صحاح عند أهل العلم، ثم أخرج منها في أثناء (صحيحه) تسعة عشر حديثاً كما ذكره النووي نفسه ومنها ستة في (صحيح البخاري) كما ذكره النووي أيضاً.
وهذا ولم يجيبوا عن تلك الأحاديث إلا بأن نفي مسلم العلم باللقاء لا يستلزم عدم علم غيره، وهذا ليس بجواب عن تصحيح مسلم لها، وإنما هو جواب عن قوله أنها عند أهل العلم صحاح.
وقد دفعه بعض علماء العصر بأنه لا يكفي في الرد على مسلم مع العلم بسعة إطلاعه.
أقول: قد كان على المجيبين أن يتتبعوا طرق تلك الأحاديث وأحوال رواتها، وعلى الأقل كان يجب أن يعتنوا بالستة التي في (صحيح البخاري) ، وكنت أظنهم قد بحثوا فلم يظفروا بما هو صريح في رد دعوى مسلم، فاضطروا إلى الاكتفاء بذاك الجواب الإجمالي، ثم إنني بحثت فوجدت تلك الستة قد ثبت فيها اللقاء بل