البويطي في مجلس الشافعي، فقال البويطي: أنا أحق به منك. فجاء الحميدي وكان بمصر، فقال: قال الشافعي: ليس أحد أحق بمجلسي من البويطي، وليس أحد من أصحابي أعلم منه. فقال له ابن عبد الحكم: كذبت. فقال له الحميدي: كذبت أنت وأبوك وأمك. وغضب ابن عبد الحكم فترك مذهب الشافعي. فحدثني ابن عبد الحكم قال: كان الحميدي معي في الدار نحواً من سنة، وأعطاني كتاب ابن عيينة، ثم أبوا إلا أن يوقعوا بيننا ما وقع» .
فأول ما يجب البحث عنه هنا هو النظر في أبي جعفر السكري حاكي القصة أثقة هو أم لا؟ أما الأستاذ فلم يهمه هذا إذ كان في القصة ما يوافق هواه، وأما أنا فقد فتشت عنه فلم أعرفه، ورأيت القصة في (تاريخ بغداد) ج١٤ ص٣٠١ وفيها «صديق للربيع» وهذا يشعر أنه ليس بالمعروف. فعلى هذا لا تثبت القصة، وإن دلت الشواهد على أن لها أصلاً في الجملة، فإن ذلك لا يُثبت من تفاصيلها ما لا شاهد له. وفي (توالي التأسيس) ص٨٤ عن الربيع صاحب الشافعي قال: «وجه الشافعي الحميدي إلى الحلقة، فقال: الحلقة لأبي يعقوب البويطي فمن شاء فليجلس ومن شاء فليذهب» وكان البويطي أسن أصحاب الشافعي وأفقههم حتى كان الشافعي يعتمده في الفتيا ويحيل عليه إذا جاءته مسألة كما في (الطبقات الشافعية) وكان ابن عبد الحكم حينئذ فتى ابن إحدى وعشرين سنة فلم يكن قد استحكم علمه ولا عقله، فمنازعته للبويطي طيشة من طيشات الشباب. وكان الحميدي أعلمهم بالحديث وأقدمهم صحبة للشافعي، لأنه قدم معه من الحجاز إلى مصر، والباقون إنما صحبوه بمصر، والحميدي قرشي مكي كما أن الشافعي كذلك فهو أقربهم إلى الشافعي وألصقهم به، ولذلك والله أعلم لما ذهب أصحاب الشافعي في مرضه إلى الجامع تخلف الحميدي عنده ثم خشي الشافعي أن يتنازعوا الحلقة فأرسل الحميدي إليهم ليبلغهم عنه، فلو شك ابن الحكم في خبر الحميدي لكان حقه أن يذهب ليراجع الشافعي لكنه عرف صدقه فاضطرم في نفسه اليأس والحزن والغضب وإن بدرت منه تلك الكلمة فهي من فلتات الغضب كما لا يخفى فلا يتشبث بمثلها في الطعن في مثل الحميدي إلا مثل الأستاذ! وقد قال هو نفسه في حاشية