والشافعي لم يسرَّ إليه، وإنما كان عنده وبقية الأصحاب بالجامع فأرسله إليهم وهم بحيث تمكنهم مراجعته. وقد جاء عن الربيع قال:«دخلنا على الشافعي عند وفاته أنا والبويطي والمزني وابن عبد الحكم، فنظر إلينا الشافعي فأطال، ثم التفت إلينا فقال: أما أنت يا يعقوب فستموت في حديدك، وأما أنت يا مزني فسيكون لك بمصر هنات وهنات، ولتدركن زماناًُ تكون أقيس أهل زمانك، وأما أنت يا محمد فسترجع إلى مذهب أبيك وأما أنت يا ربيع فأنت أنفعهم لي في نشر الكتب. قال الربيع: «فكان كما قال» ترى القصة بسندها في (توالي التأسيس) ص٨٥.
والحميدي وإن لم يكن مصرياً فقد كان أعلم الجماعة بالحديث وأقدمهم صحبة للشافعي، ورفيقه في سفره، وكان قرشياً مكياً كالشافعي، فأخصيته به واضحة. والمجاهرة قد وقعت. وذاك الاختلاف كان في حياة الشافعي كما هو صريح في القصة. وغرامة البويطي ألف دينار لا شأن للحميدي بها، ولا لاختلاف الأصحاب، فإن الأستاذ إنما أخذ مما في (توالي التأسيس) : «قال زكريا الساجي: سمعت إبراهيم بن زياد يقول سمعت البويطي يقول: لما مات الشافعي اجتمعنا في موضعه جماعة من أصحابه فجعل أصحاب مالك يسعون بنا عند السلطان حتى بقيت أنا ومولى الشافعي، ثم صرنا بعد نجتمع ونتألف ثم يسعون بنا حتى نتفرق، فلقد غرمت نحواً من ألف دينار حتى تراجع أصحابنا وتألفنا» . فغرامة الألف كانت للسعي في إنقاذه من تحبسه الأمراء أو تنفيه من الأصحاب، فإن كان هناك برطيل فللأمراء وأشياعهم. وزعم أن البويطي رشا الحميدي حتى شهد له زوراً بهتاناً عظيم لا يضر في الدنيا والآخرة غلا مختلقه. وزعم أن هوى الحميدي كان مع البويطي مخلوق آخر ولو كان للهوى مدخل لكان هواه مع ابن عبد الحكم صديقه ومضيفه، وكان آل عبد الحكم أهل الكلمة والمكانة والثروة بمصر، لا يكاد يذكر البويطي في ذلك بالنسبة إليهم. وزعم التقارب في المنزع خلاف الواقع فإن الحميدي كان محدثاً قبل كل شيء والبويطي كان فقيهاً قبل كل شيء وبُعد