الحقيقة فيرد بها روايات الثقات الأثبات ومنها ما يروى من وجهين أو أكثر ومنها ما هو متواتر على الحقيقة فأما هذه الحكاية فتفرد بها الحارثي وهو تالف مرمي بالوضع راجع ترجمته في (لسان الميزان) ج ٣ ص ٣٤٨ - وشيخه لا يذكر إلا في هذه الحكاية وقد ذكره صاحب (الجواهر المضيئة في تراجم الحنفية) ص ٢٤٩ بما يؤخذ من هذه الحكاية فقط فإما أن يكون اسماً اختلقه الحارثي، وإما أن يكون رجلاً مغموراً هلك فاختلق الحارثي هذه الحكاية ونسبها إليه فإن القصة تدل على اطلاع وتفيهق وهذه صفة الحارثي يمتنع أن يكون شيخه بهذه الصفة ثم لا يذكر إلا في هذه الحكاية، فأما الطحاوي فبريء منها حتماً ولو كان عنده شيء منها لما فات ابن أبي العوام. والظاهر أن الحارثي سمع ما حكى عن أبي حنيفة من قوله:«لو أدركني النبي ... » فحاول أن يعالجها فوقع فيه. وكأن الأستاذ شعر بذلك فحاول التأويل فزعم أن معنى قول أبي حنيفة «لأخذ بكثير من قولي» لأخذني أي للامني ووبخني! ولا يخفى حال هذا التأويل، على أنه ناقصة بما أجاب به عن قوله:«وهل الدين إلا الرأي الحسن» فزعم أن كلمة «الدين» محرفة عن «أرى» وأن الأصل «وهل أرى إلا الرأي الحسن» ولنقتصر على هذا القدر.
فأما امتناع أن يقول قائل:«أبو حنيفة أعلم ... » ولا يرفع إلى الحاكم ليقيم عليه حكم الشرع، فإنما يتجه إذا قاله على رؤوس الأشهاد، وليس فيما رواه علي بن جرير ما يقتضي ذلك. وقد مر علي بن جرير بالكوفة غريباً فإذا سمع يقول ذلك ولم يكن هناك جمع كثير رأى أنه لا فائدة في الذهاب إلى القاضي غذ لعله لو قال للقائل تعال معي إلى القاضي امتنع، فان ذهب علي إلى القاضي قال له القاضي: ومن القائل؟ فلا يعرفه، فإن عرفه فلعل القائل يجحد، بل لعلهم يعكسون القضية على ذاك الغريب ويؤذونه!
بقي ما وقع من اختلاف ألفاظ الحكاية.
فأقول: ذاك من جهة الرواية بالمعنى ومثله كثير، وفي (صحيح مسلم) في أحاديث لا تقضي الحائض الصلاة، من طريق «يزيد الرشك عن معاذة أن امرأة سألت عائشة ... » ومن طريق «عاصم عن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت ... »